تعرَّفتُ إلى “فاطمة”، الفتاة الإريتريَّة المهذبة، التي تعمل ممرضةً عند سيدة من الأرحام (الأقارب)، تُحبُّها وتكرمها. حدثتني السّيِّدة بالماضي القريب لفاطمة، فقالت: أَكرَهتْ فاطمةَ الفاقةُ على أن تَترك طفلَها في حضانة أمها، وتهاجر بمعيَّة زوجها، لتعمل “خادمة” لدى عائلة مُتْخمة، ويعمل زوجُها لدى عائلة مماثلة. وجد الزوجان نفسَيهما بعيدَين عن بعضهما، وطفلهما يعيش بعيدًا عنهما. فلم يَكَدْ يَمضي عامان على زواجهما، حتى انطفأت الأحلام، وتلاشت وُعود الأيام الرومانسية قبل الزواج، بعد أن احترق الكوخ الذي تزوَّجَا فيه، واستحال كلُّ شيء فيه إلى رماد، ومن ذلك مدَّخرات نقدية تراكمت لديهما.
تعلَّمتْ فاطمةُ التمريض، وصارت تتكفل بكلِّ ما يتصل بتطبيب الناس، الذين تَفتك بهم الأمراضُ المتوطِّنة في قريتها، قبل أن يَفرض عليها شقاءُ الأيام مغادرة موطنها. فانقلب فجأة كلُّ شيء في حياتها، ووجدت فاطمةُ نفسَها “خادمة” في بيت عائلة مُترَفة. العائلةُ تعيش في بيتٍ واسع، مجهَّز بكلّ وسائل الراحة. غرفةُ فاطمة كزِنْزانة كئيبة، تفتقر إلى وسائل الراحة، إذ كانت تُضطرّ فيها إلى النوم على فراش قديم. فيبدأ يومُها بتحضير فَطُور العائلة، ثم تُوَاصل القيام بتدبير المنزل، وتأمين متطلبات الأبناء الذين يذهبون إلى مدارسهم.
تَظلُّ فاطمةُ تدور، لا تُنفّذ طلبًا إلَّا ويستجدّ طلبٌ آخَر، من الذين يعتمدون عليها في تأمين كلّ شيء شخصي. لا يهتمّ أحدٌ بطعامها وراحتها، ويتعاملون معها وكأنها بلا مشاعر وأحاسيس. تجتمع العائلة إلى مائدة الطعام، ومُهمَّةُ فاطمة الوقوف بجوار المائدة، وتَرقُّب طلباتِهم. بعد فراغهم تتولى تنظيف المائدة، دون أنْ يكترث لها أحدٌ. ولا خيارَ أمامها إلا أن تأكل من فضلات الطعام. وعليها أن تَعْجل، لئلا تتخلّف عن تلبية الطلبات المتلاحقة. أيضًا لم تكن ظروف زوجها الذي يخدم في بلد آخر أفضل؛ إذْ كان يتعرض لحرمان الراحة، والكلّ يرونه جاهلًا بليدًا، ويتعاملون معه بأساليب لا تخلو من العنف اللفظي والرمزي. كان شاعرًا مُرهفَ الإحساس، غير أنه يتكتم على شاعريَّته.
لا تأوي فاطمة إلى الفراش إلا في ساعةٍ متأخرة، وهي مُنهَكة. أمَّا قلبُها، فلم يهدأ نُواحُه لحظةً طَوال نهارها، حيث يَنزف حزنًا على فراق ولدها. فقلبُ الأم كقلب متصوِّف عاشق، لا تنطفئ لوعةُ اشتياقه. يبدأ فصلٌ جديدٌ كلّ ليلةٍ في مضجع فاطمة، تَحضر فيه أطيافُ صغيرها. فتَغرق في بكاء لا يَكفّ، إلَّا بعد أن تَغدو حُطامًا، لتنام أخيرًا كقتيلة.
الاستعبادُ أبشعُ انتهاك للكرامة الإنسانية، وتَفشِّي ظاهرة “الخدم” المَقِيتة استعبادٌ مَقِيت، وهتكٌ لكرامة الناس. أَشعُر بالألم عندما أجدُ إنسانًا، أكرهَتْه ظروفُ عيشه المريرة على العمل في خدمة إنسانٍ آخَر، حيث يستعبده هذا الانسانُ بشناعة. أيضًا أرى فتياتٍ يخدمن فتيات، ونساءً يخدمن نساء، وشبابًا يخدمون شبابًا، وكهولًا يخدمون كهولًا. وأحيانًا أرى عجائزَ يخدمن فتيات، وكهولًا يخدمون شبابًا، أو العكس.
الكرامة البشرية قيمةٌ إنسانيةٌ عُلْيا. هي جوهرُ إنسانية كلِّ دين، ومعناها واحدٌ صريح يتساوى فيه كلُّ الناس، بغضّ النظرِ عن دينهم أو ثقافتهم أو جنسهم أو موطنهم أو لونهم أو مهنتهم. فتكريمُ الإنسانِ بوصفه إنسانًا واجبٌ أخلاقي، وليس مِنّةً أو تفضّلًا من أيّ أحد. أمّا فضحُ هذا السلوكِ المتوحش الذي يَضطهد “الخدم”، فيَفرضه الضميرُ الأخلاقي، الذي يدعونا إلى إشاعة وعيٍ مجتمعي يَنشد حمايةَ كرامة الناس، بغضّ النظر عن جنسهم أو معتقدهم أو لونهم. فحمايةُ كرامة الناس معناها حمايةُ كرامتنا من الانتهاك، لأن الكرامة وَحْدةٌ لا تتجزأ، وكرامتُنا لا تتحقق من دون تكريم كلِّ الناس.
معنى الاستعبادِ واحدٌ، وكذلك معنى الكرامة واحد. فمهْما كانت مهمة المُستعبَد ومهنتُه، فالاستعبادُ يهتك كرامتَه. وكلُّ الحضارات والمجتمعات في التاريخ تورّطت في الاتِّجار في الرقّ، وخصّصت أسواقًا لبيع البشر وشرائهم كالحيوانات، واستغلت الرقيق في مختلف الأعمال الشاقة. مجتمعاتُ التخمة اليوم، تُمارس الاستعبادَ بمسمَّيات بديلة، مثل: “الخدم”.
اِحترامُ الكرامة البشرية مَقصدُ مَقاصدِ الدين، وأسمى أهدافه. كلُّ نصٍّ يتعارض مع هذا المقصد الكلي، وينتهي إلى التمييز بين البشر، سواءٌ آيةً كان أو رواية، مثل تشريع الرقّ وما يماثله – يُطرح ويَنتهي العمل بأحكامه؛ لأنه ينتمي إلى التاريخ، ويَعكس ظروفَ عصر البعثة، إلَّا إنْ أُعيدَ تفسيرُ النصّ بما لا ينقض الكرامة أو ينتقص منها. فلا كرامة بلا مساواةٍ بين البشر، وكلُّ تمييزٍ موروث يُهدر الكرامة، وأيُّ مسعًى لتحقيق العدالة اليوم بلا مساواةٍ، لا تتحقّق فيه عدالةٌ.
أتحدَّث بالتمييز ظُلمًا، والذي يتأسس على ما يرثه الإنسان من انتماءات يمتلكها، كَالعِرق واللون والدين والثقافة والطبقة والجغرافيا التي يولد فيها، حيث قد تُشْعره بالتفوق على غيره. أمَّا ما يكتسبه الإنسانُ بجهوده من علوم ومعارف وآداب وقيم ومهارات، فينبغي أن يُكرّم كلُّ إنسان عليها بمقدار عطائه، ويوضع في الموضع الذي يستحقه، ويُكافَأ بحجم ما يهَبُه للحياة، شَرْط ألَّا يُلحِق ذلك حَيْفًا بغيره.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.