الاعتراف بالخطأ فضيلة غائبة، تُعبّر عن سلوك أخلاقي واجتماعي راقٍ، يحقق المصالحة ويُزيل الأحقاد بين الناس. وهي تبدأ من إحساس داخلي بالخطأ أو التقصير، يتبعه عزيمة صادقة على المراجعة الطوعية الواعية للأعمال والأفكار، التي يقوم بها الإنسان تجاه نفسه أو محيطه الاجتماعي والطبيعي.
يخبرنا القرآن الكريم بأن الاعتراف بالخطأ هو أهم ما يمتاز به الإنسان عن إبليس، إذ اعترف آدم وحواء بالخطأ الذي ارتكباه حين أكلا من الشجرة المحرمة. لكنَّ إبليس "أبى"، وراح يبحث عن عذر لتبرير عصيانه وغروره قائلًا: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61].
أيضًا في القرآن أمثلة كثيرة للاعتراف بالخطأ أمام الله، كما في اعتراف نوح عليه السلام: {قال رَبِّ إِنِّي أعُوذ بك أنْ أسألَك ما ليس لي به عِلمٌ وإلَّا تَغفِر لي وترحمني أكُن من الخاسرين} [هود: 47]، واعتراف يونس عليه السلام {فنادَى في الظُّلُمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمِين} [الأنبياء: 87]، واعتراف موسى عليه السلام: {قال ربِّ إني ظَلمتُ نفسي فاغفِر لي فغَفَر له إنه هو الغَفُور الرحيم} [القصص: 16]، واعتراف ملكة سبأ: {قالت ربِّ إني ظَلمتُ نفسي وأسْلَمْتُ مع سليمان لله ربِّ العالَمِين} [النمل: 44]. ويُشِيد القرآن باعتراف سحَرة فرعون وتراجُعهم عن الانسياق القهري وراء فرعون: {إنَّا آمَنَّا بربِّنا لِيَغفِر لنا خَطايانا وما أكْرَهْتَنا عليه من السِّحْر واللهُ خيرٌ وأبْقَى} [طه: 73].
وفي الكتاب المقدس، نجد اعتراف داود بخطيئته أمام الله قائلًا: "أعتَرِفُ لك بخطيَّتِي ولا أَكتُم إثمي" (مز32: 5)، واعتراف عَزْرا: "فلمَّا صلَّى عَزْرَا واعتَرَف وهو باكٍ وساقِطٌ أمام بيت الله" (عزرا 10: 1). وتحثُّ أسفار العهد الجديد على الاعتراف بالخطأ، كما في وصية يعقوب الرسول: "اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بالزَّلَّات، وصَلُّوا بعضُكُم لأجل بعض، لكي تُشْفَوْا" (يعقوب 5: 16).
لا يقتصر الاعتراف بالخطأ على الأخطاء السلوكية، وإنما يشمل الأحكام العقلية الجائرة، والتصورات الذهنية المشوهة. ولعل الاعتراف بالأخطاء الفكرية أكثر صعوبة من الاعتراف بالأخطاء السلوكية. فالتراجع عن الأفكار الخاطئة يحتاج إلى شجاعة كبيرة، نظرًا إلى ما يتضمنه من مخالفة للثقافة السائدة، والمعتقدات الشعبوية الرائجة.
نحن أحوج ما نكون في فضائنا العام إلى رجال عظماء، يملكون شجاعة الاعتراف بأخطائهم أمام مجتمعاتهم، ويكونوا قدوة ومثالًا للناس. ومِن أصعب أشكال الاعتراف، اعتراف القادة الدينيين والسياسيين بأخطائهم أمام المجتمع! ومن الأمثلة الجميلة القديمة على اعتراف بعض السياسيين وأصحاب السلطة بأخطائهم، نجد اعتراف الملِك شَاوُلُ لِصَمُوئِيلَ النبي: "أَخْطَأْتُ لأَنِّي تَعَدَّيْتُ قَوْلَ الرَّبِّ وكلامَك، لأَنِّي خِفْتُ مِنَ الشَّعْبِ وَسَمِعْتُ لِصَوْتِهِمْ" (صموئيل الأول 15: 24).
صحيح أن النظم السياسية تتحمل المسؤولية الكبرى تجاه ما تعيشه المجتمعات والأمم من فساد واختلالات، ولكن المسؤولية الفردية تبقى هي الأساس. وإنْ لم يملك الأفراد فضيلة الاعتراف فيما بينهم، فلن تجد تلك الفضيلةُ طريقَها نحو الحكومات والأحزاب والمؤسسات الدينية أو المدنية.
يعبّر مفهوم "عصمة الإنسان" في الشأن العام عن مشكلة سياسية، تسلَّلَت إلى المفاهيم الدينية، وجرى تحويرها من سمة قبيحة للحاكم المتسلط، إلى ميزة دينية لوليِّ الأمر المتعالي عن الخطأ والمساءلة! اعتراف الانسان بأخطائه أمام الله، يؤسس لمجتمع صادق قادر على التصالح مع نفسه، والعمل على تصحيح مساره. فالتوبة إلى الله دون ردّ الحقوق للعباد، ليست سوى خداع ذاتي لا يزيد المجتمع إلا تفكُّكًا وضعفًا. فنحن في حاجة إلى الانتقال من الاعتذار اللفظي إلى تصحيح المسار، ومن البحث عن "تلفيق الأعذار" إلى "صدق الاعتذار".
لا بد من معالجة نتائج الخطأ، وعدم التوقف عند مجرد الاعتراف والاعتذار. فالسَّوءة التي نتجت من أول خطأ وقع فيه آدم وحواء: {فَأَكَلَا منها فبَدَت لهما سَوْءَاتُهُما} [طه: 121]، ليست مجرد سَوْءة جسدية، وإنما هي انكشاف لاختلالات في المنظومة الأخلاقية والعلاقات السلوكية، التي تضبط حركة الإنسان مع محيطه الإنساني والطبيعي.
من الوصايا العميقة التي نجدها في نهج البلاغة: "مَن أصلَحَ ما بينه وبين الله، أصلَح اللهُ ما بينه وبين الناس". فاعتذار الإنسان وتوبته أمام الله، ليس سوى مقدمة لاعترافه واعتذاره أمام الإنسان. ومَن يعجز عن الاعتذار أمام الإنسان الذي يراه، ويتسبب في وجعه، فإنه أعجزُ من أن يفهم معنى التوبة لله الذي لا يراه.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.