تشهد اليمن الآن -في ظلِّ غياب الإعلام- قضيةً كارثيّة تتعلَّق بحرية المعتقد، وتعكس تدنِّي مستوى الثقافة الدينية المعتدلة. بدأت الحادثة المؤسفة في 15 أيلول/سبتمبر 2018، بعد سلسلة إجراءات جنائية بحقِّ 24 شخصًا، من بينهم 22 على الأقلِّ من البهائيِّين، يشملون 8 نساء وقاصرًا، في المحكمة الجزائية المتخصِّصة في صنعاء؛ عِلمًا بأنه لم يَجْرِ التحقيق معهم، ولم يتلقَّوا إشعارًا قانونيًّا من قِبل النيابة، بشأن التهم الموجَّهة بحقِّهم قُبيل البدء بإجراءات المحاكمة. أمَّا التُّهم الموجَّهة ضدهم، فشملت الرِّدّة، وتعليم الدِّين البَهائيّ، والتجسُّس، والتي عقوبتها الإعدام في حال ثبوت الإدانة. ووَفْقًا لبيان صادر عن مكتب المفوَّض السامي لحقوق الإنسان في جنيف، يجب إسقاط تُهَم الرِّدّة والتجسُّس الموجَّهة بحق 24 شخصًا في اليمن، أغلبهم من الأقلِّيّة البَهائيّة، ويجب حَظْر الممارسات التمييزية القائمة على الدين أو المعتقد.
قال خبراء الأمم المتحدة في البيان: ""إننا نشعر بالقلق الشديد إزاء الملاحقة الجنائية بحقِّ هؤلاء الأشخاص، استنادًا إلى تُهَم تتعلَّق بدينهم أو معتقداتهم، ونشعر بالقلق بشكل خاصّ من أن عقوبة بعض هذه التُّهم هي الإعدام"". وفي 29 أيلول/سبتمبر 2018، مَثَل خمسة من الأشخاص المتَّهَمين الذين ما زالوا رهن الاحتجاز، أمام المحكمة، وطلب القاضي نشر أسماء الأشخاص الـ 19 المتبَقِّين في صحيفة محلِّيّة، ثم قُرِّر عقد الجلسة التالية بعد أربعين يومًا من تاريخ الجلسة، حيث عُقدت بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 2018.
يتبنَّى القرآن الكريم حرية الاعتقاد والمعتقد، ويتجلَّى ذلك في أكثر من موضِع، من بينها قوله تعالى: {لا إِكرَاهَ في الدّينِ قد تبيَّنَ الرُّشدُ منَ الغَيِّ} [البقرة: 256]. وفي مواضِع أخرى حول الارتداد الديني، لم يُطلَب فيها قتلُ المرتدّ، بل جاء قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنُوا مَن يرتَدَّ منكُم عن دينهِ فسوفَ يأتِي اللَّهُ بِقَومٍ يحبُّهُم ويُحبُّونهُ أذلَّةٍ على المُؤمنينَ أعزَّةٍ على الكَافرينَ يُجاهدُونَ فِي سبيلِ اللَّهِ ولَا يخافُونَ لومَةَ لائمٍ ذَٰلكَ فضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ من يشاءُ واللَّهُ واسعٌ علِيمٌ} [المائدة: 54]. تؤكِّد الآيات الكريمة أن محاكمة الرِّدّة لاتكون دنيويّة، كما يفعل مَن يجهل رسالة الإسلام. ثم إن النبيَّ محمَّدًا (عليه السلام)، ارتدَّ في عهده بعضُ المسلمين ولم يُعاقبهم، مستندًا إلى قوله تعالى: {أفأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتَّى يكُونُوا مُؤمنِينَ} [يونس: 99].
يقول الأستاذ الراحل محمود طه، وهو أحد المفكرين السودانيِّين الذين أُعدموا بتهمة الرِّدّة: ""إنّ الرجل الحرّ حرِّيّةً فرديّة مُطْلقة، هو ذلك الرجل الذي يفكّر كما يريد، ويقول كما يفكّر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كلُّ عمله خيرًا، وبِرًّا، وإخلاصًا، وسلامًا، مع الناس.."". ويؤكد د. لويس صليبا في كتابه ""حدُّ الرِّدّة ركن التكفير، بحث في جذور الأصوليات التكفيرية في الإسلام""، أنّ تعبير ""حدّ الردّة"" خطأ شاسع، حتى ابن تيميّة وكلّ المتحمّسين لقتل المرتد، وجميع الفقهاء، ما من واحدٍ منهم استخدم عبارة ""حدُّ الرّدّة"". إذًا، لماذا لم يُعتمد قول ""عقوبة الردّة"" أو ""حُكم الردّة""؟ لأن الردّة ليست حدًّا، ولم يُشَر إليها كحدٍّ، لا في نصِّ القرآن، ولا في أيِّ رواية من السُّنّة النبوية.
هناك دلائل أخرى تُثبت رفض عقاب المرتدّ، فمثلًا: عمر بن الخطّاب (الخليفة الثاني)، كان يرفض قتل المرتدّ، ويلوم من يعاقب مرتدًّا، أو يقتل مرتدًّا، ولدينا آثار منقولة تُثبت أنه كان لا يعاقب مرتدًّا بالقتل، وأيضًا لدينا فقهاء مثل ""سفيان الثوري"" وكثيرون، كانوا يرفضون معاقبة المرتد وقتله.
ظهرَت الرِّدّة بتراكم ممارسات، وخدمةً لسياسات، لأنّ حدَّ الردّة كان دائمًا في تاريخ الإسلام، أداة بيد الحاكم لمعاقبة معارضيه، وكلّ الإشارات التي تشير إلى رسول الله على أنه قاتل، نَعرضها على قوله تعالى: {ومَا أَرسلنَاكَ إلَّا رحمَةً للعالمِينَ}، فتَسقط تلك الإشارات.
نحن اليوم في حاجة أكثر من أيِّ وقت مضى، إلى تعزيز الثقافة الدينية الحاضنة للتنوع، خصوصًا في الدول التي عانت –وما زالت- الحروبَ الطائفية كاليمن، والتي ينعكس آثارها على الثقافة الدينية العامة، كما تشهده الآن قضية إعدام البهائيين، الذين قد يَصدر بحقِّهم قرار الإعدام خلال الأيام القليلة القادمة، في ظلِّ ضُعف الصوت الإعلامي المدافع عنهم من جهة، وما تشهده اليمن من حرب طائفية من جهة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.