يعيش داخلَ كلِّ إنسانٍ، كبيرًا كان أم صغيرًا، طفلٌ يحمل معه انطباعات وجدانية عن الماضي والحاضر، إيجابيةً كانت أم سلبية. يُراقبنا هذا الطفل المُفعَم بالأحاسيس طَوال العمر، سواءٌ كنَّا واعين بحضوره معنا، أو لم نكن.
كثيرةٌ هي ردود الفعل على مواقف مختلفة، تكُون نابعة من مشاعر هذا الطفل في أعماق كلِّ فرد منَّا. فأحيانًا تكُون هذه المشاعر إيجابية، مَلْأَى بالحُبِّ والتفهُّم والعطف، في حين تَطغى عليها السلبية أحيانًا أخرى، من قبيل الخوف والكراهِيَة والشعور بالظلم أو بالذنب أو بالدُّونيّة، إلَّا أنَّ السؤال الذي ينبغي أن يطرحه كلُّ إنسان على نفسه، قبْل أن يُظهر أيَّ ردِّ فعل على أي موقف، هو الآتي: هل أنا الذي يُعبِّر عن مشاعره في هذه اللحظة، أم هي مشاعر ذلك الطفل في داخلي، الذي يَشعر بالظلم الواقع عليه، وبالجرح الذي آلَمَه؟
سأُعطي مثالَين لتوضيح الفكرة. أوّلًا: هناك مِن الناس مَن لا يحبُّ أن يقف أمام عدسة أية كاميرا، مقتنعًا بأنه ليس وسيمًا، بل قد يرى نفسه بَشِعًا، مع أنه ليس هكذا إطلاقًا. فمِن أين أتى عدم الثقة بالنفس؟ إنه ذلك الطفل الذي ربما سَمِع في صِغَره أو شبابه، مِن أحد والدَيه أو أقربائه أو أصدقائه في المدرسة، أنه بَشِع. فنَقش هذا التقييم السلبي جرحًا في روحه، حمَله معه طَوال عمره، مقتنعًا بأنه بَشِع. مثالٌ آخر يعانيه الكثيرون/ات: وهو فرَحُ الآباء والأمهات وفخرهم بأبنائهم، عندما يَحصلون على درجات امتياز وتفوُّق في المدرسة. لكنهم في المقابل، يُظهرون عكس ذلك عندما تكون الدرجات متدنِّيَة. إنَّ الإنسان الذي يتعرض لِمِثل هذه المواقف في طفولته وشبابه، يتعلَّم أنَّ قيمته محكومة بنجاحه الدراسي، وأنَّ حُبَّ والدَيه له مشروط بهذا النجاح. وهذا سيَنقش جرحًا يَحمله معه طول حياته أيضًا.
ما الذي يترتب على هذه الجراح التي يَحملها الإنسان معه؟ في المثال الأول، سيبقى طول حياته يتعامل مع نفسه، ويَظهر في المجتمع، من منطلَق عدم ثقته بنفسه. وفي المثال الثاني، سيبقى طول حياته قاسيًا مع نفسه ومع غيره، لأن معيار تقييمه لكل هؤلاء هو النجاح المادي فقط، سواءٌ في الدراسة، أو في العمل، أو في الترتيب الاجتماعي. سوف يكون عبئًا على شريك حياته، وعلى أبنائه، وعلى أصدقائه، وعلى زملاء العمل وغيرهم، لأن معيار احترام كلِّ هؤلاء وتقديرهم هو مجرد النجاح المادي. لكن، وهنا بيت القصيد، إنَّ الذي يتحدث هنا ويُقيِّم الإنسان، ليس ذاتَه الحرَّة ووعْيَه الحاضر، بل هو ذلك الطفل المجروح في داخله، الذي صدمَته الأيام حين أقنعَته بأنه -مثلًا- بَشِع، أو بلا قيمة، باستثناء درجاته الدراسية ونجاحه المادي.
حين يبدأ الإنسان بالوعي بجراح الطفل في داخله، سوف يبدأ بالتحرر من قفص هذه الجراح، التي تُمْلي عليه تصرفاته وردود فِعله من حيث لا يشعر. فما أكثرَ الذين ينفجرون غضبًا في مواقف تكاد تكون بسيطة، ولا تحتاج إلى المبالغة في ردِّ الفعل، أو الذين يَشعرون وكأنَّ الدنيا متآمرة عليهم: “الكلُّ يَظلمني، أنا دائمًا مهضوم الحق”. عندها، سيَشعر بحاجة ماسَّة إلى التمرد المستمر على كل شيء حوله، فيَتعب ويُتعب. وعند التفكر ملِيًّا، يَظهر أنَّ هذه الأفعال والسلوكات لا تَعْدو أن تكُون سوى صوتٍ طاغٍ للطفل المجروح، المُسيطِر على مشاعرنا وردود أفعالنا الآنيَّة، التي قد تُسبِّب لنا ولغيرنا جروحًا قد لا تلتئم.
يعتقد بعضهم أن الحلَّ يَكمن في إخماد صوت الطفل المجروح في داخلنا. لا، ليس هذا هو الحل! بل لا بد من الجلوس معه، والإصغاءِ إلى جروحه وهمومه بكل حُبّ وعطف، ثم مُراضاتِه ومُصالحته مع العالم. أمَّا مفتاح المصالحة، فهو المسامحة والمغفرة. لا بد أن نُسامح آباءنا وأمهاتنا وزملاءنا وشركاء حياتنا، وكلَّ من انتقدَنا في صغرنا أو في كِبَرنا، أو وجَّه إلينا عبارة أو كلمة أو نظرة جرَحَتنا. لا بدّ أن نتفهَّم أيضًا، أنهم حين جرَحوا أرواحنا، لم يفعلوا ذلك عن قصد، بل كانوا حينها ضحية تصرُّفٍ لاواعٍ، سبَّبَته جراحهم الخاصة.
حينها فقط، سوف ينضج الطفل الذي يسكن داخلنا، وسوف يتوقف عن النظر إلى ذاته على اعتبار أنه الضحية، بل سيعلو مَقامُه في نفسه، لأن روح المسامحة والمغفرة هي التي تُسيِّره. وهنا، تبدأ مصالحة الإنسان مع ماضيه وحاضره، بل ومع مستقبله أيضًا. سوف يعانق كلَّ مَن دخل حياته -أو سوف يدخلها- بكل حُبّ. ولذلك، صَدق الإمام الغزالي، وصَدق مَن قال هذه العبارة قبله: “معرفة الله تبدأ بمعرفة النفس، ومعرفة النفس تتطلب الجلوس الصادق معها، مِرارًا وتَكرارًا”.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.