يقدِّم لنا الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”، تَصوُّرًا لافتًا حول المعنى الباطني الرَّاقي للصيام بوَصْفِه طَقْسًا دينيًّا؛ ما يمنحنا تجربة عميقة وثَريَّة لتلك الممارسة الدينية، إذ يقول: “اعلموا أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أمَّا صوم العموم فهو كفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة… وأمَّا صوم الخصوص فهو كفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرِّجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأمَّا صوم خصوص الخصوص فصَوم القلب عن الهِمَم والأفكار الدنيوية، وكفُّه عمَّا سوى الله عزَّ وجلَّ بالكُلِّيّة”.
هكذا، تتدرج المَراتب من الصوم الظاهريِّ الذي يتعلق بالشهوات الحسِّيَّة فحسْب، إلى صوم الصالحين عن ارتكاب الآثام والذنوب والمعاصي كافة، مثل: معاصي البَصر، وذلك بِكفِّه عن النظر إلى كلِّ ما يُذمُّ ويُكرَه، أو يُشغِل القلبَ ويُلهي عن ذكر الله. وأيضًا حِفظ اللسان عن الكذب والنميمة والغِيبة واليمين الكاذبة والفحش والجفاء والمِراء والنفاق والخصومة؛ أو عن كلِّ أشكال العنف اللغوي المتخيَّل ومُمارَساتِه، الذي يمارسه الإنسان على غيره، قامِعًا إيَّاه أو مُسيئًا إليه، عن قصد أو حتى عن غير قصد. زِدْ على ذلك كفَّ السمع عن الإصغاء إلى كلِّ مكروه أو قولٍ بغيض في حقِّ الذات أو الآخر، وأيضًا كفّ كلِّ الجوارح الأخرى كاليد والرجل والبطن عن الشهوات المحرَّمة والمكروهة، والورَع في كلِّ السلوكيات، وعدم مسِّ المحرَّمات من الشهوات المادية. أمَّا مَن اكتفَى في صيامه بترك الشهوات من طعام وشراب فحسْب، فلن يتحقق بحكمة الصيام الحقَّة.
إنَّ المُثير حقًّا في طرح الغزالي ليس ما سبَق ذِكره، بل هو ذلك المعنى الهامُّ حول التحقُّق بالمرتبة الإنسانية الراقية، التي تَعني ارتقاء الإنسان عن البهيمية بنور العقل ورحابة الإيمان، إذ يغدو قادرًا على التحكم في شهواته ورغباته وسلوكياته، ومتمكِّنًا من ترشيدها، وفرض سيادته وسيطرته عليها. وهو ما يَعني تحرُّر الذات الإنسانية من عبودية الرغبات الدنيوية المُغْوِيَة. يقول الغزالي: “والإنسان رُتبتُه فوق رُتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودُون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكَونِه مُبتلًى بمجاهدتها. فكلَّما انهمك في الشهوات انحطَّ إلى أسفل سافلين، والْتَحق بغمار البهائم، وكلَّما قَمع الشهوات ارتفَع إلى أعلى عِلِّيِّين، والْتَحق بأُفق الملائكة. والملائكة مقرَّبون من الله عزَّ وجلَّ، والذي يَقتدي بهم ويتشبَّه بأخلاقهم، يَقرب من الله عزَّ وجلَّ كقُربِهم”.
لعلَّ هذا هو أُفق خصوص الخصوص، حيث التَّسامي إلى درجة الكمال المَلائكي. وهو الطريق الوعر الشَّاقّ، حيث إنَّ الإنسان قابِع بين نقيضَين يتنازعانِه: الانحدار البهيميّ من ناحية، والتَّرقِّي المَلائكي من ناحية ثانية. ومِن ثَمَّ فهو قادرٌ على التَّردِّي، وفي الوقت نفسه قادرٌ على التَّرقِّي، وفيما بينهما يُصارِع الإنسانُ تلك الطبيعة المَلْأَى بالتناقضات الفادحة. وهذا هو ما يجعل اللهَ يُباهي به ملائكتَه، حيث يتغلَّب على نَوازع الشرِّ والعصيان داخِلَه، على رغم كَونِها تُشكِّل جزءًا أصيلًا من تكوينه. لكنه وعَبْر صراعٍ مرير، يتمكن من قهرها والارتقاء بذاته حتى يقارب أُفق المَلائكية، وحيث الطبيعة الخيرية النَّقيَّة المتحرِّرة من نَوازع الشرِّ والمادة الزائلة.
هكذا، يَكدح الإنسان المؤمن كدحًا إلى ربِّه، ويُلاقِيه محقِّقًا قصديَّة خَلْقِه الحقَّة، فيَكُون ذلك الإنسان الكامل المَنوط بتحقيق خلافة الله في الأرض. بعبارة أخرى، إنَّ صوم خاصة الخاصة، هو أحدُ تجلِّيَات تلك الرحلة الكادحة الوَعْرة عبْر الطريق الحقِّ إلى الله، ومِن أجل الارتقاء الإنساني الكماليِّ عَقَدِيًّا وقِيميًّا. إن هذا الارتقاء الإنساني هو في حقيقة الأمر، سعيٌ في سبيل القُرب من الله، وحُلمٌ مِن أجل التَّحقُّق بحال الأنس به دنيا وآخرة. وهو الأُنس بالخالد الذي لا يزول ولا يتغير أو يَفنَى، بل الذي لا تكتنفه وحشة قطّ. وهو ذلك الائتناس الذي يُنقذ الذاتَ الإنسانية الكادحة من وحشتها الدنيوية القاسية وغُربتِها، بعيدًا عن الفردوس المفقود.
لعلَّ هذا هو الهدف الباطنيُّ الحقيقي من الصوم، بل من كلِّ العبادات والصَّلَوات المفروضة. إنَّه الخلاص الإنساني من ذلك الاغتراب المُوحِش، الذي يتخلَّل حضورَنا البشريَّ في هذه الدنيا الوبية، بل هو ذلك الوعي الآسِر بالمَلاذ الآمِن الوحيد، حيث الطُّمَأنينة والسكينة الحقَّة والمأمولة، في الفضاء الإلهي الخالد.
ما ثَمَّ إلَّا اللهُ مَلاذًا ومَلجأً، وهذا ما يُعايِنه الإنسان حقًّا حين يَعبد الله حقَّ عبادته، متخلِّصًا من كلِّ العلائق الدنيوية، ومتجرِّدًا وَرِعًا، لا شاغل له سوى الله وحده، وغيْر طامع في ثواب أو عقاب، وإنما هو طالبٌ وجه الله فحسْب. وهذا مُبتَغًى قد يكُون عزيزَ المَنال، أو هو المشتَهَى المُحال.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.