تَحكي المَرويات الشفهية الشيعية أن الإمام علي بن أبي طالب كان متوجهًا إلى صِفِّين مع أصحابه، فمرَّ بمبنًى خرِبٍ، رأى على جدرانه علامات تدل على أنه كان كنيسة. فقال بعض أصحابه: "لَطالما أُشْرِكَ بالله هنا"، فردَّ عليه الإمام قائلًا: "لَطالما عُبِدَ الله هنا". وقيل إنه نهى أصحابه عن أن يغتسلوا أو يقضوا حاجتهم في ذاك المكان.
بغضِّ النظر عن صحة هذه القصة، فإنها تبقى دليلًا على حضور وعيٍ ديني يشكل أعلى درجات الاعتراف، إذ يتجاوز الفهم التقليدي المتمثِّل بالقبول لوضْعٍ اجتماعي أو سياسي للآخر يسمح له بممارسة حريته الدينية، نحو شيء أكثر عمقًا، ونحو ثورة روحية تسمح بالتدخل في إيمان الآخر، واختراق خصوصيّة منزله الروحي. فالدرس اللاهوتي أو الفلسفي الذي نتعلَّمه من قصة الكنيسة وقدسية المكان، ومن عبارة "لَطالما عُبِدَ الله هنا"، هو أن قيمة دين الآخر لا ترتبط بما أعتقِدُه شخصيًّا، بل بالتجربة الإيمانية التي يعيشها الآخر، وأن التصرف الأخلاقي والديني القويم (أي احترام هذا الآخر وتقديره)، يَفترض أن أعتقد صدقية تجربته الإيمانية وإخلاصه فيها. وإنْ كنا -بحسب قول ليفيناس- "نتعامل مع الأرواح"، فإن المقولة المنسوبة إلى الإمام علي تجعلنا نفهم أن أرواحًا سكنت تلك الكنيسة، وتوجَّهَت بصلواتها إلى الله الواحد.
بطبيعة الحال، لا يعني هذا الاعتقاد التماهي مع الآخر وإلغاء الاختلافات الدينية، بل "الاعتراف من الداخل". وهو ما يجسده مثلًا نصُّ وثيقة مجمع الفاتيكان الثاني "في زماننا هذا" حول العلاقة بالمسلمين: "إن الكنيسة تنظر أيضًا بعين الاعتبار إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، الحي القيوم، الرحمن القدير، خالق السماء والأرض، الذي تحدَّث إلى البشر. إنهم يحاولون الخضوع بكل قُوَاهم لقرارات الله، حتى وإن كانت مخفية". روح هذه الوثيقة هي نفسها التي تُغذِّي مقولة: "لَطالما عُبد الله هنا"؛ إذ اللهُ نفسه يُعبد من خلال إيمان البشر، وتَوقهم إلى السمو الأخلاقي والروحي.
كانت عقيدة قدسية "الإنسان المؤمن" في التراث الإسلامي الصوفي أساس فكرة وَحْدة الأديان، التي لا تَعني بأي حال نزعة إلى خَلْقٍ دينيٍّ تركيبي جديد، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان إلَّا بدين واحد، لكن من قلة الحصافة أن يدعي احتكار العلاقة بالله. وقد تأسَّس الوعي الديني الصوفي من خلال صورة مجازية تُشبِّه الأديان بخطوط شعاع الدائرة، تبدو متباعدة، لكنها تلتقي كلها في نقطة واحدة عندما تقترب من مركز الدائرة، الذي هو الله.
يقول ابن عربي:
لقد كنتُ قبل اليوم أُنْكِر صاحبي إذا لم يكن دِيني إلى دِينِه داني
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ فمَرْعًى لِغِزْلانٍ ودَيْرٌ لِرُهبانِ
وبَيتٌ لأوثانٍ وكَعْبةُ طائفٍ وألواحُ تَوراةٍ ومُصحفُ قرآنِ
أَدِينُ بدِين الحُبِّ أنَّى توَجَّهَتْ ركائبُه، فالحُبُّ دِينِي وإيماني
يَحمل هذا النصُّ الذي يجدر أن يكون نموذجًا كَونيًّا من المُثل العليا، القيمَ الدينية والإنسانية التي استطاعت بفضلها الروحانيةُ الصوفية، أن تُحْدِث نقلة داخل تراث إسلامي اتخذ اتجاه الإنغلاق على الذات والهوية الاصطفائية، بناءً على فكرة نسخ كل الأديان السابقة، التي اعتبرت فاقدة لكل قيمة روحية وخلاصية. يصبح الصوفي الحامل لهذه النظرة رمز الإنسان القادر على استيعاب البعد الكوني للدين، وبناء وعيٍ حاضن للتجارب الإيمانية المختلفة.
يمثِّل الصوفي الشاعر مولانا جلال الدين الرومي، الذي أُدرِج ديوانُه "المثنوي" في التراث العالمي لليونسكو، تجسيدًا لهذا الجوهر الكوني للدين. يحكي الصوفي "شمس الدين الأفلاكي" أن الموكب الجنائزي لجلال الدين الرومي بمدينة قونية، اكتظَّ بالرجال والنساء والأطفال، وعلا الصياح كما لو أن القيامة قامت. لكن الأكثر إثارة هو حضور مختلف الطوائف والجنسيات من المسيحيين واليهود واليونانيين والعرب والترك، في مقدمة الموكب المهيب. وكل طائفة رفعت كتابها المقدس عاليًا، ثم أخذت تتعالى أصوات التلاوة في الكتب المقدسة في الآن نفسه: مزامير داوود والإنجيل وغيرهما، والكل في حسرة وألم وعويل. بلغ ذلك الأمرُ السلطانَ الذي استدعى ممثلي الطوائف الدينية، وبادرهم بالسؤال: "ما شأنكم بهذا وجلال الدين إمام المسلمين؟". فكان جوابهم أن قالوا: "عندما رأيناه فهِمْنا حقيقة المسيح وموسى وكل الرسل، ووجدنا فيه سيرة كل الأنبياء المخلصين الكاملين كما قرأناها في كتبنا".
في العالم الإسلامي، تتزايد الحاجة اليوم إلى هذا النموذج الديني الكوني، لتَجاوُز الهويات الدينية الحِمائيَّة والانعزالية. فتفكيك الأسس الدينية للعنف بكل أشكاله، رهين بتحوُّل فكري عميق يخلق الوعي بقدسية الإنسان مهما كان دينه، وبأن روح الله تلهم كل المؤمنين/ات، لأنه -كما يقول مولانا-: "إذا كانت كل نفس هي مريم، وكل مولود يتحقق هو المسيح، فإن كل لحظة يُولد فيها المسيح". والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.