بينما كنت أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت أمامي تغريدة لفتاة تدعى دينا، تعلن فيها اعتناقها الدين الإسلامي وخروجها من الدين المسيحي. كانت التغريدة حاصلة على خمسين ألفًا من إعادة التغريد، وهو رقم من شبه المستحيل أن تحصل عليه تغريدة عربية. قادني فضولي إلى دخول صفحة دينا، ولفت انتباهي أن الصفحة حديثة، فُتحت قبل أيام. وبسبب هذه التغريدة حصلت دينا على حوالي 8 آلاف متابع، وهو رقم قد لا يحصل عليه كاتب أو أديب أو عالم في سنة.
تمعنتُ في صورة دينا، فبدت لي أنها صورة مألوفة. قادني فضولي مرة ثانية إلى وضع الصورة في تطبيق خاص لاكتشاف الصور المسروقة، وجاءتني المفاجأة: دينا ليست دينا، إنما هي فتاة باكستانية قتلها والدها قبل سنوات، وكنتُ قد قرأت خبر مقتلها في الصحف الأجنبية، ولذلك بدت لي الصورة مألوفة. أما الحساب الذي يحظى بكل هذا النشاط من أجل تغريدة كاذبة، فإنما هو حساب وهمي يسرق صور الفتيات ويؤلف تغريدات، مستغلًّا هوس الناس بقضايا الدين، ليحصل على عدد كبير من المتابعين/ات، ثم يقوم على ما يبدو ببيع الحساب لشخص آخر، أو يغير نشاطه ليصبح متخصصًا في الإعلانات، أو قد يجعل الحساب منبرًا للفتن إنْ كان صاحبه مدسوسًا.
ليست المرة الأولى -ولن تكون الأخيرة غالبًا- التي أكتشفُ فيها هذه الحسابات، ومع وجود التحذير من النصب والخداع في وسائل التواصل، فإن الناس لا يتوقفون عن التجاوب معها ونشرها؛ ما يثير تساؤلات كثيرة حول طبيعة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في المحتمعات العربية، والمواضيع التي تهمهم، وسهولة خداعهم، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالدين. أيضًا يتبيَّن اهتمام بعض هؤلاء المستخدمين بالمظهر، والاكتفاء بالصورة، دون البحث والتمحيص خلف المظاهر الخادعة. إلا أن السؤال الأعمق الذي يطرح نفسه: "لماذا يهتم الناس بفتاة غيرت دينها -ولو في حساب وهمي- إلى هذه الدرجة؟ وما سر ولع الناس بالأرقام والأعداد للمؤمنين بديانتهم؟".
تختلف الآراء حول أسباب هذا الاهتمام. بعض المهتمين يرى أن المسلمين والمسيحيين قبيلتان في تنافس، وأن تركيز الضوء على حالات تغيير الدين، أنما يؤكد أن إحدى القبيلتين زادت فردًا، والثانية خسرت فردًا. وهناك من يرى في كل شخص يغير دينه إلى الإسلام إثباتًا بأنه الدين الأصلح والأكثر إقناعًا، وهذه التنافسية ثقيلة وغير مجدية؛ إذ هناك من يغير دينه للمسيحية أيضًا، لكن دون أن يعلن ذلك خوفًا من العواقب.
لا يمكن فصل الأفكار التي يؤمن بها الفرد عن الظروف التي يعيشها، والتجارب الحياتية التي يمر بها. نحن في هذه الحياة نمر بتجارب مختلفة، وقد لا يمر اثنان بنفس التجارب والظروف، لذلك من شبه المستحيل أن نرى تطابقًا فكريًّا بين البشر، حتى بين أتباع الديانة الواحدة. مِنَّا من يسافر فيطَّلع على ثقافات وشعوب أخرى، ومنا من يتعمق بالعلم أو بالفلسفة، ومنا من تقوده تجاربه إلى شطآن لم يطئها، فيفكر ويحلل ويعتنق أفكارًا جديدة، ويتخلى عن بعض الأفكار التي آمن بها سابقًا، بل إنه من شبه المستحيل أن يظل الإنسان على نفس المعتقدات طوال حياته، بدون أن يتأرجح فكره بين القديم والجديد والمكتسب، وقد يعود من رحلته الفكرية إلى نقطة البداية أحيانًا.
كل هذا شائع وممكن بل طبيعي. فلماذا نهتم كل هذا الاهتمام بهذه الرحلات الفردية للبشر والتي لا تُثبت أفضلية لدين أو معتقد على آخر، بقدر ما تثبت ملاءمة هذا المعتقد لفرد معيَّن بكل التجارب والظروف التي أنتجته وأثرت فيه؟
أصبح من المستحيل اليوم إحصاء أعداد المسلمين أو المسيحيين أو غيرهم في العالم، فالمعتقد قد يتغير في مراحل عمر الإنسان المختلفة. إن ديانة الفرد تحدد علاقته بالله، وهذا شأن خاص بالإنسان نفسه. ما يهمنا باعتبارنا مجتمعًا هو كيف يساهم هذا الفرد في إعمار الأرض، وأيضًا عمله الصالح، ومجهوده وعلمه الذي يَنفع به.
الفرد الذي يترك دينه لا يسيء له، ولا ينقص من الملايين الذين يتبعونه، ولا يثبت شيئًا، إلا أنه في خلال رحلة فكرية معينة وجد راحته في معتقد آخر، وهذا شأنه. ما يهمنا باعتبارنا مجتمعًا هو المواطن/ة الذي نتشارك معه في وطننا. فقد يكون جارنا أو زميلنا، وهو الذي نتشارك معه في الهموم والهواجس المعيشية والاجتماعية الحقيقية، التي لا علاقة لها بالاعتقادات الشخصية. هذا المواطن/ة هو أخي/أختي سواء مسلمًا/ة كان أو مسيحيًّا/ة، وهو من يجب أن أضع يدي بيده/ها لبناء وطن أفضل. نحن في وطن واحد، ووطننا هو قبيلتنا التي ننتمي إليها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.