هل سبق أن حدقت إلى السحب، ثم وجدت نفسك تقوم بتركيب أشكالها في قوالب بصرية مرتبطة بمشاهدات من حياتك؟ مثلًا: ترى السحابة العابرة كشجرة ضخمة، وترى ما حولها من الغيوم كفروع تحيط بها، فتقوم بتحويل ما تراه من نطاق المنظور إلى المتخيل، ثم تجلب ما بحوزتك من أحطاب الخيال والتجربة والمشاهدات القديمة، لتسقطه على ما تراه غير قابل للتفسير. تعمل ذلك من أجل صناعة إجابة، أو حياكة مشهد، أو بناء معنى.
ما زلت أتذكر سلسلة الجبال القريبة من مدينة باجل اليمنية. على رأس هذه السلسلة، تبدو تقاسيم رأس الجبل على شكل رأس إنسان. كان أصدقائي المعجبون بشخصية الزعيم جمال عبد الناصر يسمون رأس الجبل برأس جمال، وكان لديهم أسبابهم الخاصة التي تجعل رأسَيِ الزعيم والجبل متطابقَين.
في حياتنا الرقمية، نرى انتشارًا كبيرًا لأشكال مختلفة، مثل: النخلة الساجدة، والثمرة التي تحمل صورة السيدة مريم العذراء، أو الواحة التي تشبه وجه بوذا، وغيرها من الصور التي نجلب في العادة أدوات التأويل العاطفي لقراءتها. فنطير فرحًا واحتفالًا بما يبدو لنا اكتشافًا لمعجزة مخبأة، حيث تصبح هذه الصور مادة جيدة للتداول والتبادل والوعظ. وبعد أن نقوم بمنحها قدرًا من الخيال، تمنحنا هي الأخرى قدرًا من اليقين، لتثبيت ما نؤْمن به من مسلَّمات. هذه الظاهرة يطلق عليها علماء النفس تسمية "الباريدوليا" Pareidolia))، ومعناها ظاهرة الصورة الخاطئة أو العشوائية.
لكن التجلي الأهم للباريدوليا هو في تفسيرات ما يحدث من حولنا، ويشمل ذلك الأفكار ومسارات السياسة والعلاقات، ونحوها من أنساق التفاعلات البشرية. من هنا، يولَد التفكير المرتبط بنزعة المؤامرة. ونظرية المؤامرة في جوهرها تفسيرٌ انتقاصي يشير إلى شرح حدث أو موقف، اعتمادًا على مؤامرة بنيت على أساس قراءة غير معزَّزة بالأدلة الكافية والروابط المنطقية. لكن اتجاه المؤامرة سلبي في العادة، وغالبًا ما يعتمد في مضمونه على أفعال غير قانونية، أو مؤذية، تنفذها حكومة أو منظمة أو أفراد. لكن، لماذا تهيمن فكرة المؤامرة أو الباريدوليا على حياتنا؟
في كتابها العقل الجمعي، تشير الباحثة الأميركية الدكتورة "سارة كافانا" إلى نظرية المؤامرة، بوصفها آلية دفاعية نستخدمها كلما أحسسنا بالخوف من نتائج التفكير المبني على الحقائق والأدلة. عدم الثقة، وصعوبة الاستجابة للتغير، يَدفعانِنا إلى التعامل بتوجس مع كل ما يحدث، والموقف السلبي الحاد من اللقاحات مثال على هذا النمط. إضافة إلى ذلك، هناك نزعة إلى تفسير أي وضع سيِّئ نعيشه بأنه نتاج قوة ساهمت في حدوث هذا السوء، في سبيل الحصول على شعور يمنحنا قدرًا من الراحة والقناعة بأن السوء والشر يقعان خارج محيطنا. هناك دائمًا عدو يتربص بنا، وهو السبب في كل الإخفاقات التي نعانيها. أيضًا يكشف الهوس في التفكير المبني على نظرية المؤامرة رغبتنا في تقديم تفسيرات للقضايا الكبيرة، أو حلول للأحاجي الصعبة. تشير كافانا إلى الدور الذي لعبته السينما والخيال الأدبي في هذا المجال، إذ خلقت رومانسية المكتشف، الذي يستطيع تفكيك رموز القضايا الشائكة، ويستطيع نزع التفسيرات من فكَّيِ الغموض. لعل الرواية أو فلم "شيفرة دافنشي"، خير مثال على هذا النمط من رومانسية المكتشف.
لقد ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في الترويج لباريدوليا المؤامرة، وأصبحت منصاتها نقاط التقاء للأفراد المعتمدين على تفسير الأشياء بهذه الطريقة، فظهَر هذا الزخم الذي يؤْمن بأن العالم يتآمر عليه خلْقُ اتجاهٍ عفوي ذي شعبية هائلة. أيضًا أصبحت نظريات المؤامرة مادة مستهلَكة بكثرة في الكثير من الدول. يمكن النظر إلى السياسات الشعبوية التي تقف ضد اللاجئين باعتبارهم سببًا للانهيار الاقتصادي في بعض الدول، والنظر إلى وقوف الناس معها بوصفه تجليًا لهذا النمط من التفكير.
تستند الباريدوليا ونظريات المؤامرة بشكل عام إلى إشكالية، في الربط المنطقي بين السبب والاستنتاج. وهي حيلة غير مرئية. لذا، فإن أولى خطوات مواجهة هذا الأمر يتطلب جهدًا كبيرًا في تفكيك نتاج التفكير اللامنطقي، ثم تَوسعة البحث العقلي، واستجلاب الأدلة التي يمكن أن تقودنا إلى فهم أوسع للقضايا والأشياء من حولنا. وأخيرًا، السحاب ليس شجرة، وقمة الجبل ليست وجه زعيم. ثمة تفسير للأشياء دائمًا خارج نطاق العاطفة والأسطورة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.