سؤالنا يشبه سؤالًا آخر: "من أتى أولًا: البيضة أم الدجاجة؟".
أمام كل معاناة أُمّةٍ بسبب الطغيان والعنف، تبدأ الضحية باستيعاب الظلم، ومعها تولد رحلة المظلومية، وتُعلَّق الآمال الكبيرة في التغيير الجذري نحو مثالية اجتماعية ”كما في البلدان المتحضّرة“. فينتفض الناس حِفظًا لكراماتهم الإنسانية، وطلَبًا لِما يستحقّون لتحقيق هذه الكرامات. معظم الثورات تبدأ لاعنفيّة، أو مَسِيرات، أو شعارات وهتافات، أو إضرابات، أو لقاءات إعلاميّة. وتَظهر وجوه جديدة، ثائرة، بمثاليات عالية، وتطلّعات كبيرة، فتزرع الأمل في القلوب بغدٍ أفضل.
يمرّ الوقت، وتصطدم تلك الأحلام بمنظوماتها المُحنّكة والمُبدِعة في استعمال لعبة الوقت، والنَّفَسِ الطويل والباع الأطول، وأساليب الترهيب والتخوين، وإيقاظ مارِد الخوف واستغلال السرديّة التاريخية ومظلوميتها، من خلال ماكينات بروباغاندا وجيوش إلكترونيّة، وسجْن تعسّفيّ، وغير ذلك من أساليب الدفع نحو اليأس من إمكانيّة التغيير، وأحيانًا نحو الخوف من التغيير المجهول؛ إذ يقال: ”شرٌّ تَعرفه، ولا خير تجهله“.
في وجه الجبروت والقوة الفائضة، تَظهر أشكال أخرى من الرأي، مِثل تأييد العنف في وجه العنف، باعتباره ملاذًا أخيرًا وحلًّا أوحد، لكونه مرآة القوّة المتسلّطة المُحنّكة وشبيهها: ”هذه المنظومة العنيفة لن ترحل إلّا بالعنف المضاد“. وتبدأ أعمال العنف، بعضها بلا أثر سوى في ارتفاع عدد الضحايا الذين يصبحون ”شهداء“ القضايا، وبعضها قد يؤدي إلى دوّامة عنف تمتد سنواتٍ وعقودًا، تدُور في جولات الكرّ والفرّ والربح والخسارة.
تَضيع القضية وسط الدمار والضحايا الشهداء، وتُمحى وسط المُزايدة على تحديد مَن الأعنف، ومَن الفريق الأكثر مظلوميّة، ومَن البادئ والأظلَم. فتُسحق تحت ثقل جولات التخوين، ومفهوم "مَن ليس معنا فهو ضدّنا“. أيضًا تُمحى بين جولات الحوار وتجارة الأسلحة والصفقات والمخدرات، والنازحين والمعتقلين والجرحى والمشرّدين. وتُغتال القضية في النفوس المُثقلة بغياب الأمن بكل أشكاله، ووسط غياب الغد والآمال والأحلام. وينتشر الفساد في "القاعدة" والسرقةُ والتسلّط والتشبيح، بين من هم في أسفل سلّم القيادات، فيقوم: "صاحبُ المِلك على المستأجر، والتاجر على المستهلِك، والمستهلِك على عائلته…".
فيجد من لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الدوّامة، أنفُسَهم أمام خصمَين متقاتلَين أو أكثر من الطينة ذاتها، هما: المنظومة المتسلّطة المُحنّكة بسنوات الحكم، والمنظومة المتسلّطة الناشئة بوصفها “بديلًا“ عنها. فتضيق فسحة الأمل، ويغزو النفوسَ اليأسُ من التغيير. وتعود مَقولة: ”كما تكُونون يُوَلّى عليكم“، وجلدُ الذات وإقناعها بأنّ ما يعيشه الناس هو نتيجة طبيعية لكونهم من الطينة ذاتها، أو قِصاص لهم على خياراتهم. ولكن، هل فِعلًا كما نكون فقط يُولّى علينا؟ ألَا نتأثر -نحن الناسَ العاديِّين- في وجه السلطة القائمة؟ ألَا يمكن أن نتأثر بنمط قياديّ، ونتبنّاه باللاوعي الجماعي، ونطبّقه حتى في تسيير أمورنا الحياتية اليومية؟
في غياب المحاسبة، وانتشار الفساد في السلطة، رسالة واضحة للقاعدة، بأن ما يحقّ للمنظومة، يحقّ لمن أراد من القاعدة أيضًا. فسادُ الفرد أصغر من فساد السلطة. لذا، "فلْتُحاكَم السلطة قبل محاسبة الفاسد الأصغر“. إنَّ في انتشار العنف الممنهج والهيكلي، رسالة واضحة للقاعدة بأن العنف أمر مقبول وطبيعي، ومن استطاع التسلط وممارسة العنف والإقطاع على أحدهم، فهو ”شاطِر بشطارته“، و“مُحنَّك“.
بقولنا: ”كما تكونون يُولّى عليكم“، نبدو كأننا نَحكم على الشعوب بأنّها أرادت جلب الظلم إلى نفسها، وبأنها سلّمت الحكم إلى الأكثر عنفًا وفسادًا –أيْ إلى من هو مِثلها-، لكونها "مازوشيّة" (تَتلذَّذ بالتعذيب). فهل الشعوب ماسوشيّة بالفعل؟
في دماغنا خلايا عصبية مِرآتيّة (Mirror Neurons)، هي مسؤولة عن اكتسابنا معارف ومهارات. وبحسب ما تُشير إليه تسميتُها، هي "مِرآة“ تَعكس ما يحصل حولها، وتُقلّده وتتبنّاه. يتعلّم البشر عبْر التقليد، والإعادة، والتمرّس بأمر ما، كما الطفل الذي يرى كيف يتصرّف الراشد، فيقلّده متعثّرًا في البدء، ومتمرّسًا خلال التكرار، ومتعوِّدًا للتصرّف في النهاية. فإنْ كانت السلطة من نوع المتسلّط الذي حكم بأيْدٍ من حديد ونار وعنف، فإنَّ من يسعى للتغيير قد يرى نفسه عالقًا في هذه الصورة النمطيّة ذاتها، مُقلّدًا لها خلال قِتاله ضدّها، ومُمارسًا جبروتها دون وعي لخطيئته القاتلة. وكما حال الكثير من الأطفال الذين يصبحون راشدين، يُعَدُّ تغيير عادة ما جديدة لديهم، أصعب وأكثر تعقيدًا من الاكتساب الأوّل، ويتطلّب مجهودًا ومثابرة ومحاربة للذات.
للخروج من دوّامة المِرآة في الاستبداد المُحنّك والاستبداد الجديد، قد تكون أمُّ المعارك هي المعركة ضد الذات، وضد العادة، وضدّ دائرة أمان كاذبة…
صحيح أنّه كما تكونون يولّى عليكم، لكنه صحيح أيضًا أنه كما يُولّى عليكم تكونون. إنها ديناميكية مِرآة تتغذى، وتُغذّي الحاكم والمحكوم معًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.