يبدو الحديث في الديمقراطية والمواطَنة وحقوق الإنسان في سوريا حديثًا مؤلمًا ذو شجون. فمعاناة السوريين/ات ممتدة منذ عقود خَلَت، ويمكن القول: إنّ سوريا لم تَعِش "شبه الديمقراطية" سوى سنوات قليلة، أعقبت جلاء فرنسا عنها في نيسان/أبريل 1946. وبعد تلك الفترة، أصبحت الديمقراطية ودولة المواطنة مطلبَين قد يؤديان إلى غياهب السجن. بطبيعة الحال، خلَق ذلك وكرَّس انقسامات مجتمعية بين مكوِّنات البلاد، حيث أدارت الحكومات السورية المتعاقبة هذه الانقسامات، وساهمت -أحيانًا كثيرة- في زيادة حِدّتها، دون إيجاد حلول لها. فنال الكُورد نصيبهم من هذا التمييز، إنْ على المستوى الرسمي، أو من خلال النظرة السلبية إلى دورهم.
عانى الكُورد السوريون/ات التغييبَ التامّ في الدستور السوري وفي أي قانون من قوانين الدولة. فالقومية الثانية في البلاد غير مذكورة البَتّة، واللغة الكُوردية ممنوع استخدامها في المؤسسات الرسمية السورية، وممنوع تدريسها في المؤسسات التعليمية العامة والخاصة.
أيضًا كان العديد من موظفي/ات دوائر السجل المدني في سوريا، يمتنعون من تسجيل المواليد الكُورد بأسماء كُوردية، ويستبدلونها بأسماء عربية. وحدَثَ أنْ سُمِّي العديد من الأفراد الكُورد باسْمَين مختلفَين لكلٍّ منهم، أحدهما يستعمله في محيطه/ها الاجتماعي، والآخر في السجلات والدوائر الرسمية. وهذا ما ترك أثرًا سلبيًّا في نظرة الكُورد إلى الأسماء العربية، أو إلى العروبة بشكل عام، حيث باتت مرتبطة بفرض الانتماء القومي العربي على الكُورد؛ ما شكّل حالة تباعد بين المكونَين الأكبرَيْن عِرقيًّا في سوريا.
ليس هذا فَحَسْب، فآلاف الكورد عاشوا محرومين/ات جنسيةَ بلدهم، منذ الإحصاء الاستثنائي الذي أجرته الحكومة السورية عام 1962. ومذ ذاك وهم/نّ يعيشون غرباء داخل حدود بلدهم، وممنوعين/ات من السفر خارج البلاد، ولا يُسمح لهم/نّ بتسجيل معاملات زواجهم/نّ، ويُحرَمون حقّ الامتلاك، والحصول على الشهادات الجامعية.
كانت الحكومات السورية المتعاقبة تُسوِّف حلّ قضية "الإحصاء" ما أمكن لها ذلك، وتَعِدُ المتضررين/ات منه بحلّ مأساتهم في "أقرب" فرصة ممكنة. لكن تلك الـ "أقرب" امتدت عقودًا. وعند انطلاق شرارة الحرب السورية عام 2011، أصدرت الحكومة السورية مرسومًا يقضي بِمَنح مَن أسْمَتهم "أجانب الحسكة" (المُسجَّلين/ات في القيود الرسمية السورية بصفة "أجنبي/ة")، الجنسية السورية، واستثنت منهم/ن فئة تُسمى "مكتومي القيد" (مَن لا وجود لهم/نّ في السجلات الرسمية). وهي قضية لا تزال تبعاتها مستمرة، حيث ظلّ الآلاف من الكورد -حتى بعد حصولهم على الجنسية السورية- دون شهادات أو فرص عمل، وبقيت أيضًا فكرة التمييز. وفي كثير من الأحيان، استمرَّ "الاضطهاد" الحاصل على أساس الإثنية في أذهان الكورد السوريين/ات.
شكّلت أحداث مدينة القامشلي عام 2004 تهديدًا جدِّيًّا للعلاقة بين الكورد والعرب، وأطلَقت شرارتَها مباراةُ كرة قدم، بدأت بتلاسن بين جماهير نادي "الجهاد" من القامشلي (ذات الوجود الكوردي الكثيف)، ونادي "الفتُوَّة" من دير الزور (ذات الغالبية العربية). وتطورت تلك الأحداث آنذاك إلى تدخُّل الأمن السوري وقمع المتظاهرين/ات الكورد، وانتهت بسقوط عشرات الضحايا، وذلك بعد حملات تأجيج مُمنهجة من الحكومة السورية ضدهم، واستثارة الخلافات الإثنية بينهم وبين العرب.
إحدى أكبر محاولات إحداث الشَّرخ بين الكورد والعرب، كانت إسكان العشرات من العوائل العربية من محافظة الرَّقَّة، في القرى المملوكة للكورد في محافظة الحسكة على الشريط الحدودي مع تركيا، بُغية إحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة ذات الغالبية الكوردية، ضمن ما باتَ يُعرَف بـ"مشروع الحزام العربي". وبعد الحرب السورية، تغيرت طبيعة علاقة الكورد بالمكونات الأخرى، سواء داخل "مناطق الإدارة الذاتية"، أو مناطق "الداخل السوري"، وأصبحوا يشكّلون رقمًا مهمًّا في المعادلة السورية. ومع سيطرتهم على المنطقة منذ عام 2012، برزت تحديات جديدة بخصوص إدارة التنوع والعلاقات بين المكونات الإثنية المختلفة.
باتت الصراعات الإثنيّة والطائفية في أوْجِها، وبات معها الاعتراف بالتنوع أفضل السُّبُل لتجنُّب أيّ صراعات مستقبلية مُدمِّرة، وهي الصيغة المُثلى لبناء دولة مواطنة عصرية. أمّا مصير الكورد والعرب وغيرهما من أبناء الشعب السوري، فهو العيش معًا في هذا البلد، رغم ما قد يلاقونه من محاولات التفرقة. وأمّا الجانب الآخر الأكثر أهمية، فهو إعادة العلاقة مجتمعيًّا بالمحيط الذي يعيشون فيه، حيث الحساسية النابعة من اتهامهم بالسعي للانفصال عن سوريا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.