صُدمنا خلال الأيام القليلة الماضية بعمليَّتَين إجراميَّتَين، بكل ما للكلمة من معنى، وذلك بِاسم الإسلام، حين قَتل مسلمون مواطنِين أبرياء في فرنسا بطريقة بشعة، طرَحتِ السؤال مُجددًا عن علاقة الإسلام بالعنف.
مما لا شك فيه، أنَّ الأغلبية العظمى من المسلمين يرفضون كل مظاهر العنف باسم دينهم. هذه المسألة مفروغ منها، لكنها لا تجيب عن إشكالية مُقلِقة: علاقة الإسلام نصوصًا ومذاهبَ وفتاوى بالعنف؛ ذلك أنّ الذين يرتكبون جرائم عنف باسم الإسلام، يُبرِّرون أعمالهم الوحشية بقراءة حرفية لنصوص دينية وفتاوى على قدر كبير من الانتشار. إنَّ إغلاق باب العنف باسم الإسلام لا يُمكن أن يجري بمجرد إبداء المسلمين رفضهم لهذا العنف، بل لا بد من تجفيف منابعه الفكرية والعَقَدِيّة أيضًا. وإنْ كنا جادِّين في هذا المسعى، فعلينا البدء بإعادة مراجعة صورة الإله الذي نعبده بوصفنا مسلمين، ونصلي له في اليوم خمس مرات.
هل الله الذي نعبده هو حقًّا ذلك الإله الذي سوف يُخلِّد في نار جهنم معظم البشر الذين خلقهم، ويمارِس عليهم أبشع صور التعذيب، لا لجُرم ارتكبوه سوى كونهم غير مسلمين؟ وإنْ كانت هذه هي صورة الإله الذي يُسجَد ويُركع له، فكيف لنا بعد ذلك أن نبرر بأن الإسلام دين السلم والرحمة؟ وهل ينطبق قانون الرحمة على أتباع دين الإسلام فقط، في حين لا يجد هؤلاء إشكالًا في كونه عنيفًا مع الآخر؟ وهل علينا اليوم فعلًا أن نتمسك بآراء معظم المدارس الفقهية التقليدية، من قبيل مقولة “جهاد الطلب” الذي يُسوِّغ استخدام العنف لنشر الإسلام؟ ولماذا لا يجوز للمسلم أن يضع آيات القتال الواردة في القرآن في سياقاتها التاريخية؟ وهل عليه قراءة آية تأمر بقتال أهل الكتاب مثل: {قاتِلُوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يُحرِّمون ما حَرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينُون دِينَ الحقِّ من الذين أُوتُوا الكتابَ حتى يُعطُوا الجِزيةَ عن يَدٍ وهم صاغرون} [التوبة: ٢٩]، على اعتبار أنها تأمره اليوم أيضًا بذلك؟
هل علينا اليوم تطبيق العقوبات الجسدية الواردة في نصوص الإسلام وتراثه بحرفيتها؟ وهل نُجيز للرجل ضرب زوجته ولو ضربًا غير مُبرِّح لأن القرآن تحدَّث بهذا؟ وهل ينظر الإسلام حقًّا إلى كل من هو غير مسلم على اعتبار أنه نجس، أيْ إنسان من رتبةٍ أقلَّ من المسلم، لأن القرآن قال: {إنما المشركون نَجَسٌ}؟ وهل نتمسك اليوم بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، في قول الرسول (عليه السلام): “أُمِرتُ أن أُقاتِل الناسَ حتى يَشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله”، ونفهم منه أنَّ الرسول نشر الإسلام بالسيف، وأن هذا واجبنا اليوم أيضًا؟
إنْ أجبنا عن هذه الأسئلة ومِثلها بالإيجاب، فإنَّ ذلك إصرارٌ على قراءة حرفية لنصوص الدين، ورفضٌ لوضعها في سياقاتها التاريخية، أو تأويلها بصورة تجعلنا نفهمها بعيدًا عن كل أشكال العنف. فكيف نستطيع إذن تجفيف منابع العنف باسم الإسلام؟ وكيف لنا أن نُقنع الآخر بأن الإسلام دين سلام بحق؟ لدينا في تُراثنا الإسلامي آراء كثيرة نستطيع الاستعانة بها اليوم، لإيجاد تأويلات للنصوص الإسلامية بعيدة عن كل مظاهر العنف. فمثلًا: ينتقد الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين الفهم الحرفي للجنة والنار. فيُؤوِّل الآيات القرآنية المتعلقة بهما على كونها تعبيرًا مَجازيًّا عن حالة القرب من الله (الجنة)، أو عن البعد عنه سبحانه (النار). أيضًا يصف الغزالي التشبث بالفهم الحرفي للجنة والنار على اعتبار أنه من مظاهر الشرك بالله، إذ إن النية لن تكون خالصة لوجه الله طالبةً القرب منه، حين يكون القصد بالعبادة هو تحصيل النفع المادي في الجنة من أكل وشرب وحُورٍ عِينٍ.
أتَّفِق مع التأويل الذي قدَّمه الغزالي للجنة والنار، لأنه يُقدم فهمًا جديدًا -بمعايير زمنه- يبتعد بهما عن عالم الشهوة والمادة، ليرتفع بالإنسان إلى أعلى مراتب تكريمه بالقرب من الحضرة الإلهية -حسب ما يسميها الغزالي-. أيضًا يرفض ابن قيِّم الجوزية في كتابه حادي الأرواح، فكرة خلود أي إنسان في النار، مُوافقًا بذلك رأي شيخه ابن تيمية، ومُعلِّلًا ذلك بأن الخلود في النار ينافي الرحمة الإلهية. إن الشاهد من نقل هذه الأمثلة ليس محاولة العودة إلى التراث لحل إشكالاتنا الراهنة، ولكن للتدليل على أن التراث الإسلامي يتضمن العديد من الأمثلة، التي لا يُريد مُمجِّدو العنف أن يقرؤوها أو يُظهروها. إنها تأويلات تَسير في طريق تحقيق قدر أكبر من إنسانية الإنسان وإظهار رحمة الإسلام، من خلال قبول مِثل هذه التأويلات -وإنْ خالفَت بعض المعهود-؛ إذ إنّ: “اختلاف أمتي رحمة”.
ختامًا، ما أودُّ تأكيده هو أنَّ رفض الأعمال الإجرامية باسم الإسلام، سيكون أكثر مصداقية حين نفتح كل ملفات العنف الديني، سواءٌ حروبًا بِاسم الدين كانت، أو اعتداءً على جسد الإنسان أو على نفسه باسم الدين أيضًا، أو استخدامًا للخوف والتهديد، أو دعاءً على الآخر بالشر والضرر، أو غير ذلك من مظاهر توظيف الإله لتبرير العنف. إننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى رؤية جديدة للإسلام، تُضْفي معنًى حقيقيًّا وواقعيًّا على مقولة: “الإسلام دين السلام”.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.