"يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيِّن بين ما أتى بـه الإسلام وجاء من أجله، والأعراض المحيطة به". كاتب هذه المقولة هو المصلح الاجتماعي التونسي "الطاهر الحداد"، الذي وُلد بتونس سنة 1899، وتلقَّى تعليمًا دينيًّا تقليديًّا، والتحق بـ"الكُتَّاب" (أيِ المَدرسة القرآنية)، ثم أكمل دراسته بجامع الزيتونة.
عايش "الحداد" معارك الاستقلال والتحرر من المستعمر، وكان أيضًا قريبًا من مشهد الحركات النِّقابية والعمالية الناشئة آنذاك، حيث شهد مرحلة نشْأتها وظهورها وتبَلْوُرها، بقيادة رفيقه المناضل العمالي "محمد علي الحامي"، وتَتوَّج هذا الالتزام النِّقابي بإصداره كتابه التاريخي الهامّ "العمَّال التونسيون وظهور الحركة النقابية" عام 1927، الذي أرّخ فيه للحراك العمالي في المنطقة.
إنَّ كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر سنة 1930، يُعتبر أشهر مؤلفاته وأهمَّها، لأنه تناول فيه مسائل جريئة تتعارض مع التفسيرات الفقهية التقليدية. فقد دعا "الطاهر الحداد" في كتابه إلى التشدد في زواج القاصرات، ومنع تعدد الزوجات، وتقنين الطلاق، وتمكين المرأة من حقوقها المدنية (كالمساواة في حقها في الشهادة، وحرية التصرف في مالها، والمُثول أمام القضاء باعتبارها فردًا مستقلًّا، ومساواتها في الإرث مع الرجل).
لقد اعتمد "الحدادُ" في مقترحاته وتصوراته الإصلاحية تغليبَ العقل على النقل، واتِّباع المنظور المَقاصدي الذي ميز بعض المدارس الفقهية، الممثَّلة بالإمام الشاطبي صاحب كتاب المقاصد، ومَن بنَى عليه وتابَعه. ويتميز الحداد بقراءة تاريخية ونسبية للإسلام. فهو يفرق بين ما هو ثابت في الدين ولا يتغير بمرور الزمن (كالعبادات وأحكام العقيدة ومكارم الأخلاق)، والمعاملات (أي المتغيرات التي يجب أن تتلاءم مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الديناميكية)، والتي تتحول من البسيط إلى المركب. وعلى هذا الأساس، نسَب الحداد العديد من الأحكام الفقهية وراجعها. وقد ميز بين ما اعتبره جوهر الدين الإسلامي وروحه وغائيَّتَه، وما هو عرَض أو حُكم نسبي وخاص. فالبُعد الأول باقٍ وخالد، ويتمحور حول قيم العدالة والحرية والمساواة. والبعد الثاني متغير ومتطور حسب الأحوال والأزمان.
يضيف الحداد أن العديد من الأحكام، هي انعكاس لِما وجده الإسلام من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله، دون أن تكون غرَضًا من أغراضه. فما وَضَع لها من أحكام إقرارًا لها وتعديلًا فيها، باقٍ ما بقيت هي. فإذا ما ذهبت، ذهبَت أحكامها معها. وليس في ذهابها جميعًا ما يُضير الإسلام، وذلك كمسائل العبيد والإماء وتعدد الزوجات ونحوها، مما لا يمكن اعتباره أيضًا جزءًا من الإسلام على حد قوله.
لا يجوز إذًا إضفاء طابع قدسي وإطلاقي، على أحكام صدرت في زمن كانت الثقافة السائدة فيه هي ثقافة التمييز بين الجنسين، التي تُقرُّ بِدونيّة المرأة وقصورها. ولم تكن هذه الثقافة سوى تعبيرٍ عن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية في تلك الحقبة التاريخية. ونظرًا إلى تطور الأوضاع وتغيُّر الديناميكية الاجتماعية، يرى الطاهر الحداد أن ثورة الإسلام وروحه التحررية عليها أن تتمادى وتستمر. فالإسلام بالنسبة إليه ليس نصوصًا ثابتة متعالية على السياقات التاريخية والأحوال الاجتماعية؛ والدليل على ذلك أن عشرين سنة من حياة النبي (ص)، أوجبت نسخ بعض النصوص، وبعض أحكامٍ بأحكام. وتتفق مقاربة الحداد مع فلسفة الشهيد "محمود محمد طه"، الذي دعا في كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام" إلى استعادة روح الآيات المكِّيَّة، وهي عنده الرسالة الأصل، وهو ما يجعل الدين الإسلامي قادرًا على استيعاب متطلبات العصر، وتطوُّر قيَمِه الأخلاقية.
السؤال اليوم: "هل يمكننا التقدم على خطى المُصلح الديني "الحداد"، واعتماد القراءة المقاصدية التي تُقدِّم مصلحة الأمة على نصوص تراثها، والتي تمكِّننا من أن نكون مؤمنين، وفي الوقت ذاته منتصرين للقيم الإنسانية الكونية، ومنها المساواة التامة في الحقوق بين المرأة والرجل؟".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.