خلال سنوات عملي الطويلة مع مختلف شرائح الناس في العالم العربي، اكتشفتُ تلك النقطة المشتركة بينهم، وبالأخص بين النساء، دون إقصاء للعدد الكبير من الرجال أيضًا، وهي الصعوبة التي يواجهونها في قول كلمة ”لا“ عندما لا يريدون القيام بالأمر أو التسليم به، أي عندما يشعرون بحاجة مختلفة عن تلبية توقّعات الآخر. قليلة هي الشخصيّات التي تقف مع نفسها وحاجاتها دون حاجة إلى التدريب على ذلك.
إلام يعود ذلك؟ الإجابة: إلى الطفولة. فالطفل المطيع الخدوم "الذي يسمع الكلمة"، هو طفل محبوب، ومثال يُحتذى به. مَن يَقُلْ "نعم" لوالدَيه ومُعلّمِيه في كل شيء، ومَن يَخدم الآخرين، يَنال الحبَّ والصداقة والتقدير. سرعان ما يَفهم معظمنا أنّ الإجابة “نعم“ أكثر أمنًا، ومكافآتها أكبر، والحبّ الذي نسعى جميعنا لنيله، مفتاحه ”نعم“.
لا يُحبّ الرّاشدون نقاش الصغار، أو مساءلتهم، أو رفضهم. ولا تُحبّ القوانينُ والسنن والأنظمة والتوقّعاتُ التشكيكَ فيها، أو مراجعتَها أو مناقشتها أو رفضها وعدم تلبيتها. مَن يُناقِش المُسَلَّم به فهو ”كافر(ة)“، ”عنيد(ة)“، ”مُشكِّك(ة)”، ”ممسوس(ة)“، ”مدسوس(ة)“. ومَن يُطِعْ دون مساءلة ويوافق ويُطبّق المطلوب منه، فهو ”عاقل(ة)“، “شاطر(ة)“، “محبوب(ة)“.
ولكن، مع سعي كلّ إنسان للانتماء إلى الجماعة، لكلّ إنسان أيضًا نزعة إلى التميّز بتلك الجماعة، لا إلى الذوبان فيها. لكلّ إنسان حاجات متنوّعة، أحيانًا يتعلّم سريعًا كَبْتَها وإسكاتها على حساب سعيه/ها لنيل حبّ الآخر له/ها. ومع الوقت، يشعر بثقل الـ“نعم“ الدائم، لأنّها تمحي الأنا المتميّز داخله/ها.
لا يتربّى المرء على استقلاليّة الرأي في مجتمعاتنا، بل على تلبية توقّعاته منه. فيتربّى على مفهوم ”العيب“، و”قَبِّل جدّو أو عمّو أو خالتو“. ويتربَّى على ”يجب كذا“، وعلى ”سأزعل منك إن لم تفعل ما أريد“… فكيف للولد الذي يسعى ككُل إنسان إلى الانتماء إلى الجماعة، أن يجد نفسه المتميّزة وسط زحمة الآخرين وتوقّعاتهم؟!
منذ الولادة -وبحسب الجنس- نحمل أيضًا دورنا الاجتماعيّ. ”الفتاة دورها كذا، والولد دوره كذا“. يَطلب المجتمع من الفتاة أن تُمثِّل صورة الأم، الأخت، المُضحّية، صاحبة الشعور المرهف. ومع تلك المطالب تأتي التسميات النّمطية، فيصفها المجتمع بالحسّاسة، المصابة بالهستيريا، الضعيفة. وإنْ لم تُلبِّ ذلك الدور، وبرزت شخصيّتها القويّة المستقلّة الطموحة الرافضة للإلزام المُطلق دون مُساءلة، تصبح مسترجِلة، مستَقْوِية، فاجرة.
والمجتمع نفسه يطلب من الفتى أن يُمثِّل صورة الأب، الأخ المسؤول، المُعيل، جسر البيت، القويّ، القاسي الذي لا يبكي ولا يُعبّر عن مشاعره، لأنّ ذلك ضعف خاص بالمرأة. ومع تلك المطالب تأتي التسميات النمطيّة للرجل في المجتمع الذي يصفه بالقاسي، الـ"بلا مشاعر"، العنيف… وإن لم يُلبِّ الدور -ولسوء حظّه- كان مختلفًا، وأصبح مخنّثًا، ضعيفًا، بلا شخصيّة…
لتلبية كل تلك التوقّعات، يتعلّم الإنسان سريعًا أن يكون من حزب الـ“نعم“. فيُرضي مَن حوله، ويُرسل صورة الإنسان الخدوم، الموظّف المثالي، الأم المُضحّية، الأب المُضحّي… يفرح بالصورة الخارجيّة له، ويُصبح ببطء سجينها. لا يُسائِل، لا يصغي إلى حاجاته بل إلى توقّعات الآخرين منه. ومع الوقت تتملّكه المرارة، أو الحزن أو الشعور بالغبن. فنرى أو نسمع كلامًا مثل: ”ضحَّيتُ كلّ عمري لإسعاد الآخرين، ولم أجد من يقف معي عند الحاجة“، ”لا يزورني أقرب الناس بعد كل ما فعلتُ لهم“، ”الحقّ عليّ، لأني كنت لطيفًا وحنونًا“… وأحيانًا تنفجر الـ“لا“ مدوّية، وتجرف معها الأنا والآخر المصدوم، بانتفاضة لا يتوقّعها ولا يريدها ممن اعتاد الـ“نعم“.
مَن يُسائِل عن المُسَلَّم به، يسعَ لفهمه بهدف الاقتناع العميق، ويستحق الإجابة بمحبّة.
من يُعارض، فلديه رأي آخر، ويستحقّ الإصغاء النّاشط.
من يقُل ”لا“، فلديه احتياجات أُخرى، ويستحق تلبيتها.
هل هذه دعوة إلى العناد والرّفض وعدم التسليم المُطلَق؟ طبعًا لا. هذه دعوة إلى التوازن بين الـ"نعم" والـ"لا"، دعوة إلى تلبية توقّعات الآخر والجماعة، ولكن ليس على حساب الأنا. هي دعوة إلى تلبية الأنا، لأنّ لا أحد سيقوم بذلك نيابةً عنّي. هي دعوة إلى عدم الخوف من خسارة حبّ الآخر بسبب الـ“لا“ بين الحين والآخر، لأنّ من يُحبّ ويُقَدّر ويستعمل كلّ ما أعطاه الله من منطق ومشاعر وتَميُّز، يحب ما أعطاه للآخر، ويحترم الـ“نعم“ والـ“لا“، لأن في ذلك احترامًا للتنوّع المزروع فينا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.