ما يسمى أحيانًا "الكلام الجديد" هو عِلم أصول الدين أو اللاهوت الإسلامي، في ثوبه المعاصر وبأسئلته الحديثة وتحدياته التي لم يعرفها القدامى. والتجديد في علم الكلام ليس في الأسلوب والمنهج فحسب، بل يشمل المضامين والقضايا المطروحة. وذلك في حوار جاد مع العلوم الإنسانية والطبيعية والمدارس اللاهوتية العالمية. فالمباحث التقليدية (كالألوهية والنبوة والمعاد والإمامة) لم تعد كافية، وبات ضروريًّا إضافة مبحث الإنسان بصفته محورًا أساسيًّا وعقديًّا. لقد كان موجودًا في السابق بين السطور، وأصبح الآن أولوية وحاجة ماسة.
من متطلبات التجديد إيجاد لغة مفاهيمية مشتركة، تلتقي عندها الرؤى اللاهوتية للأديان المختلفة، وتتواصل من خلالها، خاصةً بعدما تراجعت أهمية الفلسفة اليونانية بوصفها لغة مشتركة بين الديانات التوحيدية الثلاث. ولعل المنهجية التي تساعد على تحقيق هذه الغاية اليوم هي منهجية اللاهوت المقارن، التي تعني تحديدًا تطوير اللاهوت الخاص في ضوء اللقاء باللاهوت المختلف، أو بعبارة أخرى: أن يكون المتكلّم المسلم المعاصر واعيًا بالسياق الديني العالمي الذي يحيط به، إن كان فعلًا يريد لخطابه أن يكون مفهومًا من قبل أتباع الأديان الأخرى. ولا يكون ذلك إلا بالحوار اللاهوتي الذي يوفّر الفرصة للتعلّم من تجارب الآخرين، والإسهام في النقاش العالمي حول مصير الإنسانية.
ومن ناحية ثانية، فإنّ تسارع مسارات التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أحدث هوة تاريخية ومعرفية بين القديم والجديد؛ ما جعل التطبيق التلقائي للتفسيرات الكلاسيكية غير ممكن، حيث تنجرّ عنه مشاكل نظرية وعملية عديدة. الإنسانية اليوم، وبسبب العولمة، تعاني مشاكل مشتركة غير مسبوقة، مثل: التغير المناخي، والرأسمالية المدمرة للتنوع البيولوجي والثقافي، والحروب التي تهدد بنسف العالم بأسره. هذا لا يعني أن الحرب قبل الحداثة كانت أقل قسوة، ولكن إمكانية تدمير الكرة الأرضية بفعل أسلحة الدمار الشامل، أو إحداث كوارث "لا طبيعية" على نطاق واسع، باتت أمرًا ميسورًا مُتوَقَّع حدوثها قريبًا. هناك أيضًا تَحدِّي الخروج من المجتمعات البطريركية التي وُلدت ونشأت فيها الأديان وكُتُبها المقدسة، إلى مجتمعات تتُوق إلى مزيد من المساواة في أشكال وتعبيرات جديدة للعدالة وإدارة الشأن العام.
إضافة إلى العولمة، هناك العلمنة، أي ظهور أنماط من العيش والتفكير والسياسة لا تعطي الدين اعتبارًا، أو تراه أمرًا شخصيًّا وخاصًّا لا صلة له بالفضاء العام. ثم إن الديمقراطية الحديثة تقتضي درجة من العلمانية، لتجعل المواطنين متساوين أمام الدولة والقانون، وإن كانت التطبيقات متفاوتة في هذا المجال. هناك أيضًا تَحدِّي التيارات المتطرفة، التي تمثل في جانب منها ردًّا على العلمانية والحداثة، أو نوعًا من الحداثة المقلوبة، والتي تدّعي العودة إلى القديم باعتباره الضمان الوحيد للاستمرارية، وبقاء الدين في الحياة والمجتمع. هذه التيارات عادة ما ترفض التجديد في علم الكلام، وأحيانًا ترفض علم الكلام نفسه باعتباره أمرًا دخيلًا، أو لإمكانية استعماله مطيَّةً لتبرير الدخيل.
لكل هذه الأسباب وغيرها، نجد ظاهرة جديدة هي التيارات اللاهوتية العابرة للأديان، مثل: لاهوت الأديان (أو لاهوت التعددية الدينية)، ولاهوت التحرير، ولاهوت اللاعنف، ولاهوت المرأة، واللاهوت البيئي، وغيرها. وهذا دليل على الوعي بالتحديات المشتركة، وعلى إمكانية إيجاد لغة مفاهيمية عامة. إنها لاهوتات متداخلة، وتشترك في المسألة التأويلية أو الهرمينوطيقية الأساسية (أي البحث عن منهج جديد لفهم النص الديني والتراث عمومًا)، فضلًا عن قراءة الأفكار والأحداث التي نقابلها في الحياة المعاصرة. فلِلنقد التأويلي وجهان متكاملان، إزاء الماضي وإزاء الحاضر.
لعل اللاعنف هو الخيط الرابط بين هذه الفروع المختلفة والمتكاملة للكلام الجديد. فلاهوت التعددية الدينية يسهم في بناء مجتمع سلمي، عبر تفكيك عقد الإقصائية التي يمكن أن تتحول في الأزمات إلى عنف. وهدف لاهوت المرأة هو بناء مجتمع تكون فيه العلاقات الإنسانية مبنية على المساواة والاحترام والتعاون، وكذلك اللاعنف يعطي النسوية بعدًا أعمق، لأنه يجرّد الدين من شوائب العنف داخل الرجل والمرأة على حد سواء. لذلك، يمكن اعتبار اللاهوتات المذكورة فروعًا من نفس اللاهوت العام، مع التركيز على دور لاهوت اللاعنف، لأنه يمثل أرضية شاملة لتلك الفروع، التي تهدف جميعًا إلى أنسنة الإنسان وتجريده من نزعات العنف والتسلط والهيمنة.
اللاهوت المقارن والحوار اللاهوتي يمثلان مدخلًا هامًّا إلى تجديد الفكر الديني وإصلاحه، بالاستفادة من تجارب الآخرين، وتقديم تجربتنا الخاصة هبةً للإنسانية جمعاء. وهذا كله يتطلب وعيًا دينيًّا مختلفًا بالذات وبالآخر، ما زلنا نسير نحوه ببطء وتردُّد.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.