مُدْهِش للغاية، أن تكُون أديان العالم في قاعة واحدة، وتكُون أنتَ/أنتِ وسط هذا الزَّخم من التَّنوّع والاختلاف الدِّينيِّ الَّذي تَجمعه أهداف عديدة، في ظلِّ راية الإنسانيَّة وكرامتها، ثمَّ تَهتِف هذه الأديان -بصوت واحد وبلُغات عديدة- بمفردات الوجود الإنسانيِّ، مثل: السَّلام الإيجابيّ، والوقاية من النِّزاعات وتحويلها، والدَّفع نحو مجتمعات عادلة ومتناغمة، والتَّنمية البشريّة المتكاملة، وحماية الأرض.
بمشاركة 900 شخصيّة دينيّة من 125 دولة، تَجمّع قبل أشهر قليلة في مدينة لينداو الألمانيَّة، مجموعةٌ كبيرة ومتنوِّعة من السَّيِّدات والسَّادة والشَّابّات والشَّباب، يعتنقون أديانًا ومذاهب وطوائف متنوِّعة من جميع أماكن العالم تقريبًا، في مؤتمر ""العناية بمستقبلنا المشترك: تعزيز الرّفاه المشترَك""، الَّذي يُعتبر أكبر مؤتمر للأديان في العالم، والذي يَتْبع لِلمنظَّمة الدُّوليَّة ""أديان من أجل السَّلام"".
كانت هذه هي المرَّة الأولى، الَّتي أُشاهِد فيها هذا التَّنوُّع والكمَّ الكبير في الأديان والمذاهب، منها ما كنتُ أعرفها نظريًّا، ومنها ما تعرّفتُ إلى ثقافتها. ويمكن القول الآن -وبعد هذا الحدث تحديدًا-، بأنَّ التَّعرّف عن قُرب إلى الأديان المختلفة والمذاهب المتنوِّعة؛ يؤكِّد إنسانيَّتنا، ويعزِّز قيمتَي التَّنوّع والكرامة الإنسانيّة، ويكوّن لدى الفرد مع مرور الوقت؛ مرونة حيويَّة في ممارسة عدَّة انتقالات وُجوديّة، تبدأ أوّلًا بالانتقال من الخلاف الدِّينيِّ إلى الاختلاف، ومِن ثمّ تثمين قيمة التَّنوّع. وثانيًا الانتقال من التَّعايش إلى العيش معًا، وهنا قيمة التَّعدُّديّة. أمّا الانتقال الثالث، فهو من معرفة الآخر إلى الاعتراف بالآخر المختلف، وهنا قيمَتَا العلمِ والثَّقافة الدِّينيَّة. إنّ هذه التَّجارب والمساحات الجديدة من الحوار غير المُعتاد، يحتاج إليها الإنسان باستمرار، من أجل تفعيل مبدأ التَّعدّد الدِّينيّ.
يا للأسف، لا تُراعي مناهجُ التَّربية الدِّينيّة في المنطقة العربيّة هذا التَّنوُّع الدِّيني، في حين نجد أحد أهمِّ أسباب صعود خطابات الكراهيَة الدِّينيَّة في المحتوى العربيِّ وفي الممارسة الدِّينيّة، يعُود إلى الجهل بثقافة الدِّين الآخر، والمَذهب الآخر، والمعتقَد الآخر. وهنا، تَكمن الحاجة اليوم، إلى تطوير مناهج التَّربية الدِّينيَّة الحاضنة للتَّنوُّع الثَّقافيِّ والدِّينيّ، وغَرْس قيم التَّضامن والعيش المشترك في عقول الأطفال والشَّباب، وبناء جيل جديد يؤْمن باختلاف المعتقد ويحترم معتقد الآخر، ويثمّن التنوّع. أيضًا أضحَت الحاجة الوُجوديّة إلى تَبنِّي النُّظم التَّعليمية في المنطقة العربيّة، منهجيَّةً جديدة في مَحو الأُمِّيَّة الدِّينيّة، في ظلِّ عالَم مُضطرب متزايدِ السُّرعة والتَّغيّر، ومُهيَّأٍ لمزيد من التَّحوُّلات، وتكُون فيه ثنائيَّةُ المعرفة والثَّقافة أداةً لِإرساء قواعد السَّلام الإنسانيَّة، وممارستِها في نسَق أخلاقيٍّ حيويّ، يتدفَّق في الحياة العامَّة.
كيف يتعامل أطفالنا مع الدِّين والمعتقد الآخر؟ وكيف نسأل الآخر عن دينه ومذهبه؟ وهل يبقى السُّؤال الثَّقافيُّ الدِّينيُّ مُحرِجًا وغير مفَكَّر فيه؟ وهل نستطيع الإجابة بثقة عن معتقداتنا؟ وهل تُناط هذه المسؤولية رجل/ سيدة الدين؟!
تتطلَّب عمليَّةُ مَحو الأمِّيّة الدِّينيّة جهودًا يشترك فيها الجميع، وبنهج يقوم على ثلاثة مستويات متوازية، يغذِّي كلٌّ منها الآخر، وهي: ""التَّنشئة الدِّينيّة""، و""التَّربية الدِّينيّة""، و""الثَّقافة الدِّينيّة""، بحيث تتولَّى مؤسَّسات التَّعليم الأساسيّة، تنشئة الأطفال في المدارس على ماهيَّة الدِّين وغايته، والاتِّساع في علاقة الأديان ومشتركاتها. وتتولَّى ذات المدارس والجامعات في مرحلة الشَّباب، التَّربية الدِّينيّة الحاضنة للتَّنوع، وكيفيّة العلاقة ما بين الدِّينيّ والسِّياسيِّ، وفلسفة كلٍّ منهما. وتكُون المهمَّة الكبرى عبْر نقل هذه المعرفة إلى الثَّقافة اليوميّة المَعِيشة، من خلال مؤسَّسات المجتمع المدنيِّ، خصوصًا الدِّينيّة منها، الّتي تشتغل في برامجها بالتَّربية على المُواطَنة وإدارة الاختلاف والتَّنوُّع الثَّقافيِّ والدِّينيّ، بحيث تتبنَّى كلُّ مرحلة غرس القيم الدِّينيّة المتنوِّعة المشترَكة بين الأديان في عقول الأفراد، وَفْق هُويَّة أخلاقيّة إنسانيّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.