يمكننا أن نقرأ القرآن على اعتبار أنه مجرد كتاب تضمَّن رسالة إلهية، علينا فهمُها وفك رموزها، بمعنى أن الله قد تَواصل معنا من خلال رسالة مقروءة. لكننا نلاحظ أنَّ النبي محمدًا (عليه السلام) والجيل الأول من المتلقِّين للقرآن، لم يتعاملوا معه باعتباره كتابًا يقرأون فيه رسالة من عند الله، بل مثّل في وعيهم تَواصل السماء مع الأرض، إذ تعاملوا مع القرآن بوصفه تَواصلًا إلهيًّا مع الناس، غايتُه تَجلِّي رحمته سبحانه على واقعهم ومناحي حياتهم: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالَمين}. فالقرآن هو تجلِّي الرحمة الإلهية.
إن معنى أن القرآن تَجلٍّ إلهي، يَكمن في أن القرآن يُمثل تواصُل الله سبحانه وتعالى مع التاريخ -إن صح القول-، ولكن من خلال لغة الإنسان، ليست اللغة المنطوقة فحسب، بل أيضًا لغاته الحضارية والاجتماعية والنفسية؛ ما يجعل دراسة السياق التاريخي وتحليله لنزول القرآن، أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل فهم القرآن.
هذا يعني أننا نستطيع وصل مقدمة ثيولوجية، تُشكل نقطة انطلاقنا، تتمثل بكون القرآن تَجلِّي الله من خلال مدخل تاريخي، ينظر إلى القرآن بوصفه كتابًا عمل فيه التاريخ، وعمل هو أيضًا في التاريخ. إنْ تعاملنا مع القرآن من منظور ثيولوجي بَحْت فحسب، فإننا سنتغافل عن دور التاريخ الفعّال في تشكُّل كلام الله كلامًا بلغة إنسانية. أما إنْ تعاملنا مع القرآن من منظور تاريخي نقدي علمي فقط، فسوف نختزله في كونه كتابًا شكّله التاريخ. وهذه الرؤية تتجاهل دور القرآن الروحي، بوصفه مساحة تواصُل الحضرة الإلهية مع الإنسان.
من خلال ما سبق، فإن مقدمة التحليل تنبني على أن القرآن عبارة عن تجلٍّ لله. هذا يعني أنني عندما أتعامل مع القرآن، فإنني في تواصل مستمر مع الحضرة الإلهية، أي مع رحمته. فتصبح مهمة المفسر حين يقرأ القرآن، ليس مجرد تحليل العبارات من أجل استيعاب معانيها، بل زيادة على ذلك، ينبغي أن يكشف عن الرحمة الإلهية من خلال التجلي الرحماني في القرآن؛ ما يفتح لنا أفقًا جديدًا للتواصل مع القُرآن، والنظر إليه بوصفه كتابًا يخاطب العقل والروح، وليس مجرد كتاب تشريع. فهو بهذا الاعتبار كتاب جمال ورحمة، يخاطب قلوبنا بغية تحريكها بمعاني الرحمة والجمال. ففي القرآن أجدُ ذات الله الحاضرة، إنه الله الذي أجده في القرآن، وليس مجرد رسالة من عنده!
ما يُميز الهرمنيوطيقا (عِلم التفسير الديني) التي أقدمها هنا، هو أنها في طرحها السؤال عن كيفية فهم القرآن، لا تقتصر على طرح سؤال الكيفية التي ينبغي أن نتعامل بها مع القرآن بوصفه نصًّا، بل تطرح -زيادة على ذلك- سؤالًا عن تواصل الإنسان مع الحضرة الإلهية من خلال القرآن. إذن، فالقرآن ليس مجرد نص يريد أن يُفسَّر، بل هو تواصل روحاني يريد أن يُعاش. كان الله وما زال حاضرًا في القرآن، وخاصة في تلاوته، لأن المعنى في شكل نغمة يبقى حرًّا طليقًا يؤثر في المتلقي إلى الأعماق، حتى ولو لم يفهم محتوى هذه النغمة، لأنها تُحرك فيه وفي قلبه شيئًا ربانيًّا من آثار روح الله، التي نفخها فيه كي يكون من صُنَّاع المحبة. وهذه الحضرة الإلهية في القرآن، تدعوني اليوم أيضًا –بوصفي متلقِّيًا للقرآن- إلى إدراك معاني المحبة هذه، وترجمتِها في حياتي اليومية، وهذا ما أحسب أن على المؤمن أن يقوم به.
من ناحية أخرى، يلتزم السياق والمدخل التاريخي النقدي لدراسة القرآن، مهمة الكشف عن نزعة التواصل الحوارية بين الوحي الإلهي من جهة، والسياق التاريخي المَعِيش أيام الوحي من جهة أخرى، وذلك للكشف عن التفاعل المشترك بين السماء والأرض. وهكذا، تَظهر قصة الوحي كقصة الله مع الإنسان. وفي نظري، هدف هرمنيوطيقا القرآن اليوم، هو الكشف عن معطيات هذه القصة.
هذا يعني أن التاريخ ذاته قد لعب دورًا في تشكل الوحي، لأن الله تجلَّى من خلال التاريخ. ولذلك، لا يمكنني أن أفهم الوحي دون أن أفهم تاريخ السياق القرآني في القرن السابع الميلادي. فتكمن مهمة هرمنيوطيقا القرآن -من هذا المنظور الثيولوجي التاريخي-، في الكشف عن رحمة الله في تواصله مع التاريخ. فأين كانت هذه الرحمةُ في سياق تاريخ تنزيل القرآن ملموسةً؟ وكيف غيَّر تجلِّي الله في وحيه للقرآن، المجتمعَين المكِّي والمدني في القرن السابع الميلادي؟ وأين كان اتجاه التغيير؟ أتحدَّث باتجاه التغيير الواعي، لأن القرآن أشار إلى وجهة التغيير، ويدعوني اليوم إلى مواصلة الحركة في هذا الاتجاه، لذلك فإن القرآن كتاب مفتوح. هذه النقطة مُهمة، لأنها تؤكد ديناميكية النص القرآني من جهة، ودور مفسر القرآن اليوم في إنتاج معاني جديدة وفق القراءة السهمية للقرآن من جهة أخرى، فيبقى القرآن في صيرورة مستمرة.
إن الأمثلة التي سأشرحها في المقالة القادمة -بإذن الله-، ستكشف عن معنى القراءة السهمية للقرآن بشكل أوضح. فإلى ذلك اللقاء..
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.