يُعَدُّ تاريخ الانتفاضات اللبنانية حتى وقت متأخر من القرن الحالي، ولا سيما الانتفاضات الأولى منها ضدّ النظام "المقاطعجي" منتصف القرن التاسع عشر، تاريخًا ملتبسًا، وغير دقيق، وذلك إذا ما حاولْنا استخدام تعابير مجرَّدة وأكثر إنصافًا. معظم القراءات التاريخية المتوافرة نقلت إلينا هذا الصراع على اعتبار أنه مجرد صراع بين المقاطعجيين أنفسهم، قبل أن تظهر دراسات جديدة، تؤكد أن تلك المرحلة كانت مرحلة "نهوض شعبي عارم"، بحسب تعبير المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر، الذي يُعدُّ واحدًا من أكثر مؤرخي جيل ما بعد الاستقلال، الذين أعادوا قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي للبنان، من خارج السرديات المهيمنة.
منذ وقت متأخر من العام الحالي، وربما حتى هذه اللحظة، لا تزال الانتفاضات اللبنانية الحالية في أيامنا عُرضة لمحاولات التشويه، بتصويرها صراعاتٍ بين النخب الحاكمة، على أساس أنها صراعات "سياسية"، في ضوء استبعاد دائم لطبيعة النهوض الشعبي اللامركزي الذي واكب التحركات.
نجحت السلطة الحاكمة في لبنان في إخماد الانتفاضة/الانتفاضات على مرحلتين أساسيتين، ومِن ثَمَّ جرى طمس الأبعاد الاجتماعية "العامة" التي أطلقت شرارة الاحتجاجات، والتي نجحت تقريبًا في خلق أشكال جديدة من الاستقطاب، وفقًا لقواعد سياسية/طائفية. المرحلة الأولى تمثلت بالقمع المباشر الذي نتج ويَنتج منه عنفٌ معلن، لا يحتاج تأويله إلى جهد كبير. وهذا عنف -رغم تواصله- لا يفقد علانيته، ولا يعاني احتمالات الإصابة بالالتباس. لكن المرحلة الثانية -ورغم استمرارها على مراحل- تُضمر تشويهًا ممنهجًا للحاضر، عبْر تحويل الانتفاضات الشعبية إلى مجموعة نزاعات سياسية بين "مقاطعجيين" جُدد.
ليس هذا الالتباس المقصود هو الوحيد. وهو على قصديته، يستمد قوته من التباسات غير مقصودة في كثير من الأحيان، لكنها أشد رسوخًا، ولا تخضع للتأويل. منذ وقت طويل، كان مألوفًا في الخطاب السياسي التقليدي السائد في لبنان، ترداد شعار "العيش المشترك". وقد بلغ ابتذال هذا المصطلح مبلغًا حادًّا، تَطوَّر إلى درجة استبداله أحيانًا بمصطلح "التعايش"، والمقصود به تنظيم العلاقات الاجتماعية بين المسيحيين والمسلمين في لبنان. وإن كان "التعايش" -بمعناه اللغوي الصريح- يضمر الافتعال، فإن اللبنانيين حتى وقت طويل -بسبب انصرافهم إلى إدارة نزاعاتهم الداخلية، ونزاعات الآخرين في بلادهم-، لم يعترضوا على المصطلح اعتراضًا جذريًّا، حتى صار راسخًا في الأدبيات بوصفه شكلًا من أشكال إدارة الحياة فيما بينهم. وهذا يعني تسليم الخطاب بتقسيم اللبنانيين إلى جماعات، في نفي شبه نهائي لصفة الفردية عنهم ومن هوياتهم، وتقسيم الجماعات نفسها إلى جماعتين اتخذتا طابعًا دينيًّا (أي المسلمين والمسيحيين).
مع أن أشكال الهوية صارت أكثر رحابة وقبولًا للتمايزات، بالنسبة إلى العوامل الطبقية والخيارات الجنسية، إضافة إلى عناصر أخرى تلعب دورًا في تشكيل هوية الفرد المعاصر، فإن المصطلحات المتفرعة من العيش والتعايش، ما زالت تعني الجماعتين المسلمة والمسيحية، بما يعنيه ذلك من انتساب المواطنين/ات إلى طوائفهم، بوصفه مَدخلًا أساسيًّا إلى انتسابهم إلى المجتمع اللبناني.
أسقطت الانتفاضات الأخيرة هذا الالتباس من الناحية المعنوية، لكنه بقي راسخًا على مستوى النظام السياسي وأدواته العنيفة. ومع أن اللبنانيين يحتاجون إلى عقد أو عقود اجتماعية جديدة، ما زال النظام في هيكله يقوم على وجود جماعتين نهائيتين، باعتباره شرطًا أساسيًّا لنهائية هذا الكيان نفسه. فاللبنانيون اليوم، يمكنهم ملاحظة "العيش المشترك" أكثر من أي وقت مضى، من دون كهرباء، وخلف طوابير المحروقات. وأيضًا يتشاركون في جزء كبير من همومهم مع اللاجئين والعمال والعاملات الأجانب.
قبل كل هذا، لاحظ اللبنانيون/ات من خلال أعمال مؤرخين كثيرين، أن الاحتكار الذي اكتسب سمات طائفية، كان احتكارًا اقتصاديًّا في أساسه، وقد استقوى أهله بجماعاتهم على حساب أبناء جلدتهم الطائفية، وعلى حساب المصنِّفين بوصفهم منتمين إلى طوائف أخرى على السواء. بعد ركود الانتفاضة، التي عانت هي الأخرى تفشِّيًا مفرطًا للفردانية ساعد على تفكيك الانتفاضة من الداخل، يهيمن اليوم خطاب يائس على حياة اللبنانيين/ات، ويعزز من إحباطهم؛ ما يتيح للخطاب المهيمن تاريخيًّا أن يستمر في التباسه.
ليس العيش المشترك اليوم اتفاقًا بين مجموعة زعماء طائفيِّين، لأن هويات الأفراد لم تعد قابلة للتصنيف الطائفي الصِّرف، ولا يمكن إهمال العوامل الطبقية والإنسانية الأخرى التي تَجمع بين البشر وتُفرقهم، بل هو بالتأكيد حاجة ملحَّة إلى الخروج بعقود اجتماعية جديدة. ولا يعني هذا أن "العيش المشترك" في صِيغته الأولى لم يكن تاريخيًّا، أو أنه كان وهْمًا بالكامل، بل ذلك يقتضي مراجعات منهجية ومحددة، لفهم اللبنانيين/ات لأنفسهم، وفهم علاقاتهم بالدولة وبالمجتمع. لكن هذا الفهم بعد أكثر من قرن على ولادة "لبنان الكبير"، تَغيَّر تغيُّرًا جذريًّا.
تُعيدنا الفكرة الأخيرة إلى البداية: لبنان الكبير، الاسم والصفة. في نشأته، اكتسب لبنان هذه الصفة بدلالات جغرافية واضحة، أي ضمَّ مناطق الشمال والجنوب والبقاع إلى جبل لبنان. لكن لبنان اليوم صار أكبر من اسمه، لأن مجتمعه ازداد تعددًا. والاعتراف بالتعدد يقتضي الاعتراف بالمُتعدِّدين. لم يَعُدْ هؤلاء مسلمين ومسيحيين وحسب، بل صاروا لاجئين/ات، منه وإليه أيضًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.