هناك من يجيب عن سؤال التجديد في الإسلام من مدخل عاطفي، فيغضبه مجرد طرح السؤال. وهناك من يؤيد ضرورة التجديد في الإسلام معتمدًا على حديث الرسول (عليه السلام): “إنَّ الله يَبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مائة سنة مَن يُجدِّد لها دِينَها”. أظن أن معظمنا متفقون على أن أفهام الناس تتراوح من سياق إلى آخر. فالقرآن والسنة النبوية نصوص نقرؤها ونحاول فهمها، وبسبب تعدُّد الأفهام نشأت منذ بدايات الإسلام مدارس ومذاهب مختلفة، تنافست فيما بينها بالحجة والدليل.
من أهم أسباب ظهور هذه التعددية الفكرية في تاريخ الإسلام، ليس هو اختلاف الأفهام فقط، بل أيضًا اختلاف الثقافات والخبرات والآفاق الفكرية. لذلك، تُشكل قابليةُ الإنسان لتجاوز المعهود عنده، بغية التعرف إلى الجديد دون خوف من فقدان الهوية، النقطةَ الحاسمة في سؤال التجديد، الذي سمح للمسلمين -من أمثال الغزالي وابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم-، بكتابة الجديد في فهمهم للإسلام، وبالنهوض بالحضارة الإسلامية. أمَّا الذي خلَّده لهم التاريخ، فهو ثقتهم بأن انفتاحهم آنذاك على الفكر اليوناني لن يسلبهم هويتهم الإسلامية، بل سيمكنهم من توسيع آفاقهم لفهم أعمق للإسلام، حسب ما ذكر الغزالي حين شرح مثلًا منطق أرسطو، وجعله شرطًا لفهم أصول الفقه الإسلامي.
إنه سؤال الهوية، الذي علينا اليوم إعادة طرحه، بغية الخروج من مشكلة الخوف من الانفتاح على ثقافات البشرية من علوم فلسفية وإنسانية، والاستفادة منها. من المحزن مثلًا أن نسجل اليوم غياب الاهتمام بالدراسات الإنسانية والفلسفية، عن معظم معاهد الشريعة الإسلامية وجامعاتها. ولكن، لماذا نبخل على طلابنا الذين سيكونون هم في الغد واجهة الإسلام وعلماءه، بأن يواكبوا نتاج عصرهم الفكري؟ ولماذا نسمع دائمًا اعتراضات من قبيل: “هذا نتاج الفكر الغربي، لا نحتاج إليه”؟ أليس الفكر ملْكًا للبشرية جمعاء، دون إلصاقه بهوية ما؟
لا تَجدُنا حين نشتغل مثلًا بعلم الكيمياء أو الفيزياء، نتحدَّث بنظرية مسيحية أو أخرى إسلامية. لكن، حين نَلِج في العلوم الإنسانية والفلسفية، هناك يبدأ خطاب الهوية والخوف من الفكر الآخر غير المعهود. فيَرفض معظم العاملين اليوم في حقل الدراسات القرآنية مثلًا، الانشغال بنظريات الهرمنيوطيقا (علم التفسير الديني) أو بالدراسات القرآنية الحديثة، ويكتفون بدراسة كتب التراث، محتجِّين بمقولة: إننا بلغْنا سقف الفهم الأكمل للإسلام منذ قرون مضت. وكأنَّ للفكر الإنساني الحقَّ في أن يواكب التطور الثقافي للبشرية، إلا في حالة العلوم الإسلامية.
لماذا أركِّز هنا على سؤال الهوية؟ إنَّ التجديد يعني قابلية إعادة النظر في المعهود، وربما استبداله بالجديد. لكن التعلق بالمعهود على أساس أنه هو الحقيقة الوحيدة والمطلقة، وأن أي محاولة لزعزعتها تُساوي نزع الهوية الدينية من المسلم، سيجعلانِنا نرفض أي خطوة إلى الأمام، وهذا ما يشتكي منه اليوم الفكر الإسلامي. فكثيرًا ما يعاني المفكرُ المسلم حصولَ رفْضٍ لِطرْحِه بحجج عاطفية يقُودها سؤال الهوية، لا بحجج عقلانية. فإما يُشكَّك في تديُّنه، أو في ولائه لأمة الإسلام.
ركَّزتُ في المقالات السابقة -في سياق موضوع تحرير الفكر الإسلامي من مظاهر الاستبداد-، على ضرورة إعادة فتح ملفات علاقة الإسلام بالسلطة منذ الخلافة الأموية حتى اليوم. لكن هذا العمل يتطلَّب -من أجل القيام به- استعدادًا لعملية النقد الفكري، وإلا سنكتفي بمجرد استهلاك الماضي وتكريره. إن عقلية التكفير، والتي هي نوع من أنواع الإقصاء الفكري، أنما هي مجرد وجه من وجوه ذلك الاستبداد السياسي، الذي تَحوَّل إلى ثقافة. فالبديل لثقافة الاستبداد هو تكريس ثقافة الحرية، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الفكري.
رسالتي إلى القارئ(ة) العربي(ة): لا تنتظرْ حصولك على حرياتك، بل ابدَأْ منذ هذه اللحظة بممارسة الحرية في كل مجالات حياتك، التي أمْرُها بيدك. إذا مارسْنا الحرية في بيوتنا وفي تفكيرنا، فستصبح هذه ثقافتنا وسلاحنا في وجه جميع أنواع الاستبداد.
أتَوجَّه في النهاية بجزيل الشكر إلى مِنصَّة “تعددية”، التي فتحت لي هذا المجال للتواصل مع القارئ(ة) العربي(ة)، ووضع بعض أفكار كتابي بين يديه/ها عن تحرير الفكر الديني من بُنَى الأفكار الاستبدادية، آمِلًا استمرار التواصل معكم. فإلى ذلك الحين دُمتم في رعاية الرحمن.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.