ينظر المسيحيون في العراق إلى زيارة البابا فرنسيس بوصفها خطوة دولية وفاتيكانية، حتى عراقية، تدعم وجودَهم في العراق، وتُوقِف نزيف هجرتهم إلى الخارج، نحو أوروبا وأميركا وأستراليا ودول أخرى. وتُشير الأرقام إلى أن 1.5 مليون مسيحي كانوا في العراق حتى عام 2003، عندما كان عدد سكان العراق 27 مليون نسَمة، لكن هذا الرقم تَراجَع بعد أعمال العُنف، التي شهدها العراق منذ لحظة سقوط نظام صدام حسين في نيسان/أبريل 2003. أما اليوم، فلا يوجد في العراق سوى 250 ألف مسيحي، في وقت ازداد فيه التعداد السكاني للعراقيين ووصل إلى 40 مليون نسمة، وهذا يعني تراجُع وجودهم بشكل كبير.
المسيحيون أول من شعروا بخوف وقلق وتهديد حقيقي لوجودهم بعد عام 2003، فكانوا أول من استهدفتهم الجماعات المسلحة المتطرفة وتنظيم القاعدة. وحادثة كنيسة سيدة النجاة في بغداد، التي ارتكبتها القاعدة عام 2010، كانت لحظة فاصلة في دفعهم إلى الهجرة أكثر.
نستطيع القول إن قضية المسيحيين وتهديد وجودهم في العراق، كانتَا محط اهتمام دولي لا بأس به قبل عام 2014، لكن -ومع دخول تنظيم "داعش" ذلك العام وارتكابه مجازر كبيرة بحق الإيزيديين في سنجار-، اعتَلَت قضيتهم على نظرائهم المسيحيين عمومًا، فنُسُوا تقريبًا. يقول كاهن كنيسة (مار أداي) "ثابت حبيب" لوكالة الأنباء الفرنسية: "نأمل أن تثير زيارة البابا الكثير من القضايا العالقة، التي تقف في وجه عودة النازحين والمهجَّرين المسيحيين، ومنْع التغيير الديموغرافي والحفاظ على هوية مناطقنا، ومباشرة الإعمار الجاد".
على مدى السنوات الماضية، احتاج المسيحيون إلى مُدافعين عنهم، وإلى قوة تُسندهم إلى الصمود في وجه ما تعرَّضوا ويتعرضون له. فأملاكهم وعقاراتهم لم تُصادَر من قِبل تنظيم "داعش" فحسب، بل قَبْله وبعده عملت عصابات في بغداد على الاستيلاء على منازلهم، في ظل صمت كلِّ الحكومات. في السنوات الخمس الأخيرة، بدا واضحًا للمراقبين -وربما لغيرهم أيضًا- وجود انقسام مسيحي ديني وسياسي، أثَّر ذلك في تمثيلهم في مجلس النواب والدفاع عن قضاياهم. فما عاد هناك دفاع واضح ومُمنهَج عن وجودهم، باستثناء أصوات فردية أو أصوات منظمات المجتمع المدني. أمَّا على مستوى السياسيين ورجال الدين، فبدَت الانقسامات واضحة للعيان، وأضعفَت ما يجب أن يَقْوى.
المسيحيون في العراق وبكافة طوائفهم، ينظرون إلى زيارة الحَبر الأعظم على اعتبار أنها زيارة المُنتظَر الذي وُعدوا بزيارته على مدى سنوات طويلة، ولم تتحقق. بالنسبة إلى البابا هي حلم له أيضًا أن يزور مسقط رأس النبي إبراهيم، وأن يُحقق ما سعى إليه سلفه البابا يوحنا بولس الثاني، الذي كان يُخطط عام 2000 لزيارة العراق. على المستوى المعنوي، تضيف هذه الزيارة بالنسبة إلى المسيحيين قوة كبيرة، تُعادل قوة جيوش، لكن يبقى السؤال: هل تعوضهم الزيارة ما خسروه، أو على الأقل تُوقِف الخسارات؟ لن تكون زيارة البابا وفق المؤشرات الموجودة على الأرض، سوى زيارة رمزية دينية روحية، تبعث برسائل إلى العالم لِلَفْت الانتباه إلى العراق والعراقيين، ولفت انتباههم من جديد إلى مسيحيي بلاد وادي الرافدَين.
إن الزيارة لن تُغير شيئًا من الواقع، فهي زيارة لبلد مضطرب سياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، حتى مجتمعيًّا. فلو طرح البابا عشرات المبادرات، ولو أوصى بأبسط الأمور، ولو ضمن بعض الأطراف، فمن يضمن له الجميع؟ على المسيحيين ألَّا يُعوِّلوا كثيرًا على الزيارة برأيي؛ إذ ليست أكثر من كونها إشارة إلى لفت أنظار العالم باتجاههم من جديد، لا لأنَّ مشكلةً ما أو ضعفًا ما في البابا أو الفاتيكان، بل على العكس، لأن المسيحيين في العراق خارج موازين القوى، وهم فئة ضعيفة وهشَّة على كافة المستويات.
لم تنجح الدولة العراقية التي همَّشت الديانات الأخرى، عندما اعتبرت الإسلام مَصدرًا وحيدًا للتشريع في دستور عام 2005، حيث جاء في الفقرة الأولى من المادة الثانية: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع". وبعد عشر سنوات، عاد المشرِّع العراقي لتهميشهم من جديد، بل لسلب حقوقهم، عندما أقر قانون البطاقة الوطنية الموحدة عام 2015، ووضَع في الفقرة الثانية من المادة 26: "يتبع الأولاد القاصرون في الدين مَن اعتنق الدين الإسلامي من الأبوين". ورغم اعتراض المسيحيين وأهل الديانات الأخرى، لم يلتفت إليهم أحد.
هذا لا يعني أنها زيارة غير مهمة، أو ليست بتاريخية، على العكس تمامًا، هي زيارة لا يُمكن القول عنها إلا أنها: "زيارة سلام ورسائل إيجابية تحتاج إلى من يقرَؤُها، في الداخل والخارج".
فأهلاً بالكرسي الرسولي، في بلد الرُسل والأنبياء.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.