احتفلت البشرية في الرابع من شهر شباط/فبراير بـ"اليوم العالمي للأخوَّة الإنسانية"، الذي تبنَّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بوصفه حدَثًا كونيًّا، وذلك بعد أن جرى التوقيع سنة 2019 على "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك". وهي وثيقة ركزت على دور الأديان في نشر رسالة السلام ومكافحة التعصب والكراهِيَة، من خلال قيمة الأخوَّة التي تجمع المؤمنين على اختلاف عقائدهم.
يبدو واضحًا –مع الإشادة الإعلامية العالمية بالوثيقة وبالقيم التي تَحملها- أنَّ نقْل مبادئها للميدان العملي لا يزال عَصيًّا، بل إن الكثير من الأوساط الدينية غير الرسمية، لا تخفي توجسها من القيمة الأساسية التي تنبني عليها الوثيقة، ألا وهي قيمة الأخوة الإنسانية. ومع بداهة الوثيقة في المجال التداولي الرسمي والإعلامي، حتى في أدبيات الحوار، فإن مفهوم الأخوة يبقى فضفاضًا وشديد العمومية؛ ما يفسر أن الكثير من مؤمني الأديان المختلفة، لا يَعرفون بالضبط ما الذي تفرضه هذه القيمة من سلوك أخلاقي أو عملي، وكيف عليهم أن يتصرفوا تجاه الحدود والضوابط التي قد تكبح هذه القيمة.
عمومًا، بالنسبة إلى المسلمين، يبدو أن فكرة الأخوة الإنسانية -سواء بين المسلمين وغيرهم أو حتى بين المسلمين أنفسهم-، لا تزال برأيي شعارًا استهلاكيًّا أكثر منها عقيدة مبنية على فهم عميق لفعل الإيمان في علاقته بالآخر المختلف. فهي فكرة لا تزال تصطدم بعقيدة -واعية أو غير واعية-، وهي فكرة الولاء والبراء التي تنبني على مبدأ وجود حدود دينية غير قابلة للاختراق، ترسمها التأويلات الدينية، في محاولتها صناعة آلية للدفاع عن الذات والهوية، ضد الخطر الافتراضي الذي يشكله الآخر.
قد يُفاجأ المرء بأن فكرة وجوب "بُغض الكفار ومعاداتهم في الله"، لا تزال تجد طريقها إلى عقول العديد من الشباب، بسبب التشنجات المذهبية التي تعرفها الكثير من المجتمعات، وبسبب الصدامات الدينية الحضارية، التي عرَفتها العلاقات بين المسلمين وبعض الدول الغربية في العقود الأخيرة. يجري الاعتماد على نصوص، مثل: "إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَة"، و"المسلم أخو المسلم"، للاستدلال على أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بمبدأ الأخوَّة خارج الدين، ثم إن مؤاخاة "الكفار" تكون على حساب العقيدة استنادًا إلى الآية القرآنية: {ولن تَرضَى عنك اليهودُ ولا النصارى حتى تَتَّبِع مِلَّتَهم}. ويجري التركيز على أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجمع البشر، هو البنوَّة (بالمعنى البيولوجي) في آدم وحواء، وأن أقصى ما يمكن أن نذهب إليه هو الاكتفاء بمعاملة الآخرين بالتي هي أحسن.
أتساءل هنا: "هل يمكن الجمع بين فكرة الأخوة وفكرة التكفير؟ وهل يمكن أن يكون أخًا لي من أعتبره كافرا؟".
أعتقد أن عقيدة التكفير تُشكل عائقًا دينيًّا أمام بناء قيم أخوَّة حقيقية، لأنها تجعلنا حبِيسِي منطق ثُنائي إقصائي. ولعل هذا هو ما يفسر أن مجتمعاتنا، كما مجتمعات أخرى، ليست مستعدة تمامًا -بحكم التنشئة الدينية العامة وبسبب الانتشار السريع لإسلام الهوية-، لاستيعاب عمق فكرة الأخوة الإنسانية. ولعل الدليل على ذلك هو العديد من السجالات الحادة حول الحدود "الدينية"، التي تقوِّض مفهوم الأخوة الإنسانية، مثل تلك التي تُثار بداية كل سنة ميلادية جديدة حول هل يجوز تهنئة "النصارى" بـ"أعيادهم الكفرية"، لدرجة أنها أصبحت من أكثر أبواب الفقه والفتوى استهلاكًا.
يُظهر هذا الأمر ارتباكًا دينيًّا وحضاريًّا عميقًا، حاولت المؤسسات الدينية التقليص من حدَّته، لكنها -في اعتقادي- لم تنجح في ذلك، لأنها اكتفت بإعلانات لحسن المشاعر والنوايا بشأن العيش المشترك، لم تَصْحبها اجتهادات دينية حقيقية. ما أقصده، هو أن مفهوم الأخوة الإنسانية مُكلِّف، ويتطلب ثورة روحية ولاهوتية تخلصنا من نرجسيتنا الدينية أو المذهبية.
ثمة قراءة ممكنة لبعض نصوص الإسلام، يمْكنها أن تمنح مفهوم الأخوة الإنسانية معنى أساسيًّا وجديدًا، مثل تفسير {فنَفخْنا فيه من رُوحنا}، بمعنى أن البشر كلهم حاملون للروح الإلهية، التي لا يَنتقص من قدسيتها أيُّ انتماء ديني أو غيره؛ ما يستتبع فكرة الكرامة البشرية التي لا تستقيم مع الدلالة القدحية لكلمة "الكافر" كما في قوله تعالى: {وَلَقَـدْ كَرَّمْـنا بـَني آدَمَ}، دون أن ننسى أن القرآن يُقرُّ بوضوح فكرة أسبقية التقوى والسلوك القويم على أي انتماء ديني: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
فهل نحن مستعدون لمثل هذه الثورة، أيْ لاعتبار المخالفين لنا في المذهب أو الدين، أو حتى غير المؤمنين، إخوانًا لنا في الله أيضًا، ما يمنحهم مكانًا داخل رحابة العمارة الإلهية؟ ليس ذلك بالأمر الهين، لأن الاعتراف الحقيقي بالأخوة الإنسانية يُشكل مخاطرة شُجاعة، تقتضي تخلية القلب من التوجس والكراهية، ثم تحليته بالحب لكي نستضيف الآخر، فيصبح أخًا. والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.