صدَّق البرلمانُ التونسي قبل أسابيع بكل ديمقراطية على تنقيحاتٍ حول إرساء المحكمة الدستورية -وهي أرقى مؤسسة في الجمهورية-، التي تنظر بطبيعتها في دستورية القوانين، حيث استُبعد من خلالها مبدأ أساسي، وهو مبدأ التناصف أو المساواة بين الذكور والإناث. وفي نفس الأسبوع، لوَّح رئيس بلدية ضاحية الكرم (المنتخَب بطريقة ديمقراطية) بمنع المِثليِّين من دخول منطقته. وفي السنة الماضية، قرر سكان بعض المدن -بكل عنصرية- منع دفن ضحايا جائحة الكورونا في المقابر العامة خوفًا من العدوى.
والغريب أن مثل هذه القرارات جرى اتخاذها بكل شفافية وحسب مبدأ الأغلبية، وهو ما يولِّد شعورًا بهشاشة الديمقراطية الناشئة في أوطاننا، وبإمكانية تَحوُّلها إلى استبداد ناعم قائم على الوصم والإقصاء، خاصة في مجتمعات لا تزال غير مستوعِبة للفرْدَنة والتفرد، وغير قادرة على القطع مع ثقافة تمييزية نشأت عليها واستبطنَتها.
نحن نعرف أن الديمقراطية تَعني -تعريفًا- سيادةَ الشعب، التي لا يمكن بالأساس أن تكون إلا مباشرة. لكن التاريخ حسم هذه المفارقات لمصلحة الديمقراطية التمثيلية. والهدف من هذه المنظومة هو حل النزاعات وإدارة المصالح توافُقيًّا، والتداول على السلطة سلميًّا، عبْر الانتخابات التي تُفرز أغلبية وأقلية، مع العلم أن أقلية اليوم قد تكون أغلبية الغد. ويَجدر بالملاحظة هنا أن الانتخابات هي مجرد إجراء تِقْني، وليست قيمة في حد ذاتها. لماذا؟ لأن التاريخ علَّمَنا أن الانتخابات بوصفها إجراءً ديمقراطيًّا، قد أفرزَت نقيض الديمقراطية، وخيْر دليل على ذلك صعود هتلر إلى السلطة. ولذلك، لا بد من إيجاد محاذير للديمقراطية حتى لا تتحول إلى فاشية، أو تنزلق إلى ما سمَّاه "توكفيل" و"جون لوك" و"جون ستيوارت ميل": "طغيان الأغلبية".
وهذا يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وسيلة أو أداة للوصول إلى الحكم، ولا يمكن أن تكون شكلية. فمضمونها الفلسفي والأخلاقي تَحرُّري بامتياز، وهو قائم على معيارية الإنسان وسلطان العقل والحقوق الطبيعية للفرد. ومِن ثَمّ، فالانخراط في المنطق الديمقراطي يترتب عليه العديد من الالتزامات القانونية والأخلاقية. ثم إنه لا يمكن اختزال الديمقراطية في عملية الاقتراع العام، إذ إنها تُجسِّد قيمًا إنسانية راقية، مثل: قبول وجود الآخر المختلف، ونسبية الحقيقة، واحترام الأغلبية للأقلية، وقبول الأقلية لحكم الأغلبية، والسماح بحريات الاعتقاد والتعبير والاختلاف.
في عالمنا هذا، لا يمكن مثلًا للفريق الغالب أن يستعمل نفوذه لانتهاك حقوق المواطنين/ات، أو أن يتخذ قرارًا يُلغي الانتخابات، أو أن يُحرِّم الإضرابات العمالية، أو أن يَسنّ قوانين شاذة تَقهر الأقليات الإثنية أو الدينية وتنتهك منظومة حقوق الإنسان الكونية. لماذا؟ لأن لِسيادة الإرادة العامة حدودًا وخطوطًا حُمْرًا، تتمثل بحقوق الإنسان المؤسَّسة أخلاقيًّا. وهنا، يكمن التماسك الداخلي بين السيادة الشعبية من جهة، وحقوق الإنسان من جهة أخرى، لأن ذلك هو الأمر الذي سيَنتج منه بِناء العَقد الاجتماعي السليم والدائم.
مِن الواضح أن الديمقراطية تَضمن التعبير عن الإرادة الشعبية من خلال حكم الأغلبية. لكن من الواضح أيضًا، أنها يجب أن تَضمن أن الغالبية لن تسعى إلى التمكين، ولن تَستخدم قوَّتها ونفوذها وسيطرتها على دواليب الدولة ومفاصلها لانتهاك الحقوق الأساسية للأقلية. لذلك، يجب أن تَملك الأقلية (أي القوى السياسية التي ليست في الحكومة) الحقَّ في السعي لتصبح أغلبية، وأن تمتلك جميع الحقوق اللازمة للتنافس في الانتخابات، مثل حياد الإدارة والأمن والجيش، وأيضًا حق التعبير والتجمع والتنظيم.
إذًا، الديمقراطية وحقوق الإنسان، هما متلازمتان كوجه الورقة وقفاها، بل إن احترام هذه المبادئ والأخلاقيات والحقوق هو الذي يعطي الديمقراطية شرعيتها النهائية، ويحمي في نفس الوقت سيادة الشعب من الانزلاق في طغيان الأغلبية. وبتعبير آخر: إن حقوق الإنسان يُفترض فيها أن تكون بمنزلة سدٍّ شرعي، يحُول دون دَوس الإرادة العامة ذات السيادة لفضاء الحريات الفردية -على حد تعبير الفيلسوف الألماني "هابرماس"-.
فالديمقراطية هي أساسًا ضمان حقوق الأقليات العِرقية والدينية والسياسية، التي من حقها تجسيد قناعاتها، والمجاهَرة بها بكل حرية واستقلالية دون أن تخدش مشاعر الأغلبية، ودون أن تكون عُرضة لأيِّ حساب أو عقاب أو إقصاء.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.