اِرتأيتُ أن أبني مقالي هذا على تجربة عاشها أحد أصدقائي، وهو أستاذ وإمام واعظ، في إحدى المدن الإيطالية. فبعد أن أنهى خُطبة الجمعة، ختم بالدعاء: "اللَّهمَّ اجعل هذا البلد آمنًا". أثار دعاؤه بعض اللغط والاستنكار داخل المسجد، حيث تَقدَّم إليه مجموعة من المصلِّين مُعاتِبين له، لأنه خالف الشريعة، على اعتبار أن إيطاليا جزء من دار الكفر، ثم إن العلاقة بين المؤمنين والكافرين يجب أن تَحكمها عقيدة الوَلاء والبَرَاء. لذا، لا يجب الدعاء بالخير لغير المسلمين.
تعتمد النظرة الإسلامية الكلاسيكية إلى العالَم والآخر، على عقيدتَين:
-عقيدة ما يسمَّى فِقْه "الدَّارَين": "دار الإسلام" حيث تُطبَّق شرائع الإسلام، و"دار الكفر" حيث لا يُحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وهي دار يجب على المسلمين أن يُلحقوها بدار الإسلام. ثم جرَتْ إضافة دار العهد أو الصُّلح. لا يَجد هذا التقسيمُ الفقهي له أساسًا، في القرآن أو السُّنَّة. فقد نشأ تاريخيًّا في مرحلة دخول الدولة الإسلامية في علاقة صراع مع القوى المتاخمة لها، وهو تقسيم جغرافي يعتمد على الانتماء الديني.
-عقيدة الوَلاء والبَرَاء، أي الحُبّ في الله للمؤمنين، والبُغض والمعاداة في الله للكفار. مِن مظاهر هذه العقيدة: هجرُ بلاد الكافرين إلَّا للضرورة، وعدم الثقة بهم، وعدم الترحُّم عليهم أو مُوَادَّتِهم. ومِن السّلَفِيّة مَن يعتبر كراهيَة غير المسلم، من أركان العقيدة وشروط الإيمان.
جعل الفكرُ السَّلَفِي المتطرِّف من هاتَين العقيدتَين تشريعات أبديَّة ثابتة، من أجل صناعة فكرة وجود صراع أبديٍّ بين "فُسْطاطَين": "الإسلام" و"الكفر"، المُسلم وغير المسلم. وأيضًا جعل منها سَنَد عقيدة التكفير. فرأى أن أغلب الدول الإسلامية كافرة لأنها لا تطبِّق الشريعة الإسلامية، وأنَّ وَلاء المُسلم يكُون لأمَّته ودِينه وليس لِوَطنه. وكان مشروع "داعش" تطبيقًا دمويًّا لهذه الثُّنائيّة، حيث أصبح العالم كلُّه، باستثناء دار الخلافة، دارَ حرب وكفر.
لكن، في المجتمعات الحديثة أصبح ملايين المسلمين يعيشون في الدول الغربية، حيث الدولة لم تَعُد مؤسَّسةً على الوَلاء الديني، بل على المواطَنَة والتعاقد السياسي. فرَض هذا الوضعُ تقسيمات جديدة، فتحوَّلَت دار الكفر والحرب إلى دار "الدعوة"، ثم إلى دار "الشهادة"، حيث يُصبح المسلمون دعاة إلى الإسلام بفضل القيم التي يجسِّدونها. لكن الخطاب القديم لا يزال حيًّا على مستوى الخطابات والمخْيَال الجماعي أحيانًا، وأيضًا كان توجيه اللَّعَنات جزءًا من طفولتنا، ونحن نسمع الإمام كلَّ صلاة جمعة يدعو بـ"مَوت الكفَّار ودمار بلدانهم". ولا نزال نسمع مَن يبتهج بأن الإسلام أصبح يكتسح أوروبّا، التي ستصبح عمَّا قريب جزءًا من دار الإسلام.
في سياق مجتمعات التعدُّديّة والحرِّيّات الدينية، أصبح مفهوم "دار الإسلام" متحرِّكًا. بعض الآراء الفقهية تؤكد أنه إذا كان بإمكان المسلمين ممارسة دينهم بحرية في بلد ما، حرية يفتقدونها في بلدانهم الإسلامية نفسها، فيمكن اعتبار هذه الدولة جزءًا من دار الإسلام، والعدل مقابل دار "الجَور".
فنتساءل الآن: أليس الغرب كلُّه الآن دار سلام للمسلمين؟ ومتى تكُون الدول الإسلامية أيضًا دار سلام لكلِّ أتباع الديانات، كي يمارسوا دينهم ويدعوا إليه بحرية؟ ألم يَحِن الوقت كي يتخلص الفقه الإسلامي من ازدواجيّة الخطاب وانفصام القيم؟ ونتساءل أيضًا: لِمَن يكُون الوَلاء؟ هل للدِّين أم للوطن؟
أعتقد أن مفهوم الأمّة الإسلامية، بالمعنَيَين السياسي والجغرافي، قد أصبح مُتجاوَزًا، وأن الوَلاء للدين يجب أن يكُون مرادفًا للولاء للوطن. لا شك أن مسألة اندماج الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبّية، يتطلَّب تجاوُز المنظور الفقهي الثُّنائي للعالم، والذي يغذِّي أطروحة صِدَام الحضارات. وأعتقد أنه لم تَعُد هناك دار كفر ودار إسلام، بل إن البشرية يجب أن تَشقَّ طريقها نحو "دار الإنسان"، نحو وطن "المسكونيّة"، أيْ بمعنى من المعاني، الوطن المقدَّس، لأنه مَسكنُنا وفيه كرامتنا وسكينتنا.
يقول مولانا جلال الدين الرومي مفكِّكًا عقيدة البراء والبغض: "لا شيء أسْهَل من الكراهيَة، أمَّا الحُبُّ فيحتاج نَفْسًا عظيمة. ويقول الله تعالى: {لا يَنهاكمُ الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدِّين ولم يُخرجوكم مِن دياركم أن تَبَرُّوهم وتُقسِطوا إليهم إنَّ الله يُحِبُّ المُقسِطين}.
فاللّهمَّ اجعَلنا من المُقسِطين ولا تجعَلنا من المُبغِضين، واجعَل هذا البلد آمنًا!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.