هي المرَّةُ الأُولى في تاريخ تونس، التي ترفض فيها استقبال سفينة إنقاذ مهاجرين، بسبب خلاف مع عدَّة دول حول مسألة "الهجرة السِّرّيَّة".
لقد أنشأتُ حِوارًا تخيَّلْتُه بين مُهاجر عالِق في تلك السفينة ومسؤول تونسيٍّ.
- ها أنا أتحوَّل إلى ساعة رمليَّة، صار "الانتظار" كُنْيتي. منذ أيام، ونحن تائهون في عُرض البحر. لا مرفأ يستقبل قاربنا. أربعون مهاجرًا، من بيننا نساء وحوامل، أخْطَأَنَا الموتُ مرارًا، لكن الحياة لم تُخطئ قَسْوتها معنا. غادرتُ بلادي بحثًا عن غدٍ أفضل في أوروبا، وحين بلَغْنا سواحلها لم تَقْبلنا، ولا أنتم الذين تُشْبِهوننا في تونس "الأفريقية"، قَبِلْتُمُونا. لماذا؟
- بل حاولنا إنقاذكم. الباخرة التي أنقَذَتكم قُبالة سواحل مالطا كانت تونسية. حاولنا مرارًا لفت نظر إيطاليا ومالطا إلى وجودكم قُبالة سواحلهما، لكنهما رفضَتا استقبالكم، وكذلك رفضت فرنسا. نتعاطف معكم؛ ولهذا يتحرك الهلال الأحمر التونسي لِإمْدادِكم بالمؤونة والعلاج، إلّا أننا نحمي سيادتَنا أيضًا.
- سيادتَكم؟ هل وُجودنا على اليابسة في تونس انتهاك لسيادتها؟
- لقد جرى إنقاذكم في مياه تابعة لمالطا، بعد أن أعطت الإذن للجرَّار البحري التونسي بالتحرك لانتشالكم، لكن على مالطا أن تتحمل مسؤوليتها. لَسْنا حرّاس حدود أوروبّا، ولسنا أرضًا بديلة لمن فشل في الوصول إلى أوروبا. هذه هي المرّة الأولى، التي نرفض فيها رُسوَّ قارب نجدة يُقلُّ مهاجرين. وقرارنا لم يكن سهلًا، بل هو ردُّ فِعل على رفضِ أوروبّا استقبالَ هذه القوارب، وعلى إعادتها إلينا. لدينا شباب تونسيُّون أيضًا، توجَّهوا إلى أوروبّا سرًّا، ظنًّا منهم أنها صِمَام أمان.
- نَهِيم على وجوهنا منذ أسبوعين، عرَّضْنا حياتنا للخطر مرارًا، لا ننوي العودة إلى بلادنا حيث الحروب والجوع والفَقْر. صحيحٌ أنَّ مِن بيننا مَن ألقى بنفسه في البحر، رافضًا أن تكون تونس وجْهَته. لسنا لُؤَماء، لكننا بذَلْنا كلَّ ما لدينا حتى نصل إلى أوروبا. هي ترفضنا، وأنتم كذلك. هل هذه هي تونس، التي حرَّضَت العالم على الثورة لأجل الكرامة؟
- لدينا سَقَطاتُنا في حقوق الإنسان، لكننا نَبذل كلَّ ما في وُسْعنا حتى لا نَنْتهكها. نحن مثلًا نرفض مُقترَح أوروبا فتْحَ مِنصّات لاستقبال المهاجرين غير الشرعيِّين؛ لأننا نؤمن بأنها انتهاك لحقوق الإنسان. إنها لا تحترم القانون الدولي. لقد رفضْنا اتِّفاقات غير متكافئة من الاتِّحاد الأوروبِّي، حين عرَض علينا المساعدات المالية مقابل احتضان هذه المِنصَّات. لا نقبل المساومة ولا الضغط. ولهذا أيضًا، رفضْنا رُسوَّ قارب النجاة التونسي الذي يُقلُّكم، حتى تتحمل الدول الأوروبية مسؤولياتها.
- أليست تونس أيضًا مُصدِّرةً للمهاجرين غير الشرعيِّين مِثلنا؟ أليست شريكة في هذه القضية؟ المئات غَرِقوا في مياه تونس أثناء محاولتهم بلوغ إيطاليا، والآلاف دفعوا إلى المهرِّبين التونسيِّين.
- تونس نقطة انطلاق المهاجرين الراغبين في الوصول إلى أوروبّا، لكنها ليست بلد العبور الرئيسي؛ فإنّ 0.5 % فقط من المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا بطريقة غير قانونية عبْر البحر المتوسط العام الماضي، جاؤوا من تونس.
- هل نذهب كَبْش فِداءِ الحسابات السياسية والتجاذبات، بين دول جنوب المتوسط وشماله؟ هل يتخلى عنا العالم بعد أن تخلَّت أوطانُنا عنا؟
- .......
- كنتُ أعتقد أن تونس مختلفة حين يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. يبدو أني مخطئ.
- مع قلَّة إمكانيّاتنا، إلّا أننا نحاول التزام تعهُّداتنا تجاه الإنسان، مواطنًا كان أو مهاجرًا. ما زلنا ندفع تَبِعات مخيَّم اللاجئين "الشوشة" جنوب تونس، الذي فتحناه في الحرب في ليبيا. كان يُدارُ من متطوِّعين تونسيِّين، والمفوَّضيّة العُليا لِلَّاجئين وصلت في وقت لاحق، ثم قرَّرت إغلاقه. لسنواتٍ بقي أمره عالقًا، ورفَض بعض المهاجرين مغادرته. كان علينا تفكيكه العام الماضي، بعد أن تحوَّل إلى بؤرة فساد وإجرام، وقِبْلة لمهرِّبي البشر وسماسرة الهجرة السِّرّيَّة. مَشاكل المتوسط، كلُّنا شُركاء فيها، ورَمْي الكرة في ملعبنا يتكرّر مع كلِّ أزمة. لهذا، كنّا صارمين هذه المرة.
- برأيك، لماذا نُلقي بأنفسنا في البحر؟ هل ذلك لِخَلْق أزمات لدُوَل ليست دولنا ولا وجْهَتنا؟ نلقي بأنفسنا في البحر، لأن اليابسة لم تكن آمنة لنا. تلك السيدة الحامل، لماذا تُخاطر بروح طفلها؟ لأنها تريد حياة أفضل له، حتى لو بدَت مغامرتها غير مسؤولة.
أنا مُغامر أيضًا. شهاداتي لم تشفع لي في الحصول على عمل ووثائق في أوروبّا بشكل قانوني. كان عليَّ أن أتحايل على القانون، وأختار أصعب المسالك للوصول إلى أوروبا. أنا الشاب الذي يختار دومًا الطريق التي تعجبه. طريق واحدة كانت تعجبني، تلك التي توصلني إلى حُلمي، لكنه اليوم يتحوَّل إلى كابوس.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.