الرجوع

مَن أَعبُد عندما أعبُد؟

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٢/١٨ |

هـ ١٤٤٠/٠٦/١٣

"لا يُؤْمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه"، حديث نبوي يؤكّد العلاقة المتينة بين الإيمان والعمل، ويبيّن طبيعة الإيمان باعتباره علاقة حبٍّ بين الله والإنسان، بمبادرة إلهية: {يُحبُّهم ويحبُّونهُ} [المائدة: 54]؛ لتصير علاقة حبٍّ بين الناس: "المتحابُّون بجلالي"، كما جاء في الحديث القُدسي. حُبُّ الله لا ينفصل عن حبِّ الناس، وهذا معيار إيماني عامٌّ، نقيس به إيماننا وحياتنا وأفكارنا وأعمالنا. فالكراهية مخالفة لطبيعة الإيمان والغايةِ منه.

إذا كانت هذه طبيعة الإيمان، فما طبيعة المحبة التي هي أساس الإيمان؟ وإذا كنتُ أدّعي عبادة الله الأحد وحبَّه تعالى، فمَن أعبُد حقيقةً؟

طبيعة المحبة واحدة، سَواءٌ محبَّةَ الله كانت، أم محبَّةَ الإنسان. فـ"الحبُّ واحد"، كما يقول أحمد الغزالي في كتاب "السَّوانح". وكما ذكرتُ في مقالة سابقة، فإنّ آفة المحبة هي الوهم، أيْ أن نحبَّ وهمًا نُنتجه، صورةً غير حقيقية للمحبوب، هي في الحقيقة صورة لرغباتنا ونزواتنا؛ أو أنْ نحبّ وهمًا يُنتجه المحبوب، أي الصورة المغلوطة التي يقدِّمها لنا. ولمَّا كان الله تعالى لا يَصدر عنه الوهم، فهو الحقُّ الذي لا يخالطه الباطل. فإنَّ الوهم الذي يُباع لنا على أنه الحقيقة المطلَقة، لهُوَ من إنتاج تُجّارِ الدِّين، المتكسّبِين من غسيل الأدمغة واستعباد الناس. فيتحوّل الدِّين إلى أفيون للشعوب، ومَلهاة للفقراء، وتغرير بالسُّذّج.

أمّا الوهم الذي نُنتجه نحن، فهو مصداق الآية: {أرأَيتَ من اتَّخذَ إلههُ هواهُ} [الفُرقان: 43]. فمحبة الله بالوهم، هي محبة الهوى والأنا بالحقيقة. والهوى كالهواء، لا يستقرُّ على وِجْهة، مذبذَبٌ بطبيعته. وهو ما يسمَّى أيضًا بالشِّرك الخفيّ، غير المعلَن، الذي يدبّ دبيب النملة، ومن ثَمَّة خطورتُه القصوى. إنه الوثن النفسي الذي لا اسْمَ ولا لون ولا رائحة له، ولكنه سرعان ما ينعكس انحرافًا في الأفكار والأعمال.

يُشَبَّه سلوك الإنسان نحو الله، بالسَّير باتِّجاه النور. ولمَّا كان الإنسان لا يستطيع النظر إلى الشمس مباشرة، حيث نورها الساطع يُعْشي الأعين، فلا بد له من حجاب، يكون وصلًا وفصلًا في الوقت نفسه. فالحجاب من ناحية، وصْلٌ بالحقِّ وحماية لنا من الاحتراق، على مثال موسى: {قالَ ربِّ أرنِي أنظُر إِلَيكَ قالَ لَن ترانِي ولَكن انظُر إلَى الجبلِ فإِنِ استقرَّ مكانهُ فسوفَ ترانِي فلمَّا تجلَّى ربُّهُ للجبَلِ جعلهُ دكًّا وخرَّ مُوسَى صعِقًا} [الأعراف: 143]. ولكن الحجاب في الوقت نفسه، يَحمل مَخاطر الفصل والبُعد. فالإنسان الذي يَسير نحو النور، عليه لكي يتقدّم، أن يمزِّق الأحجبة حجابًا وراء آخر، حتى يترقَّى باقترابه تدريجيًّا من النور. أمّا إنْ تَوقّف عند الحجاب، فإنه يحوّله إلى وثن ومطلَق زائف، يُعبد من دون الله. فما دام الحجاب نسبيًّا وقابلًا للتجاوز ضمن حركية الحبّ، فإنه حماية ونماء؛ أمَّا إنْ تَحوَّل إلى حاجز يُعرقِل الحركة، فيُصبح مشكلة وعقَبَة. فالمؤمن محطِّم أوثان، والحركة حياة ونجاة.

الحجاب هو نقطة الالتقاء بين تَجلّي الله وحركة الإنسان، في منتصَف الطريق بين الأرض والسماء، في منطقة يسمِّيها ابن عربي "الخيال". فكما "خَلق اللهُ الإنسانَ على صورته"، فإن الإنسان "يَخلق" صورة الله في خياله على شاكلته. صورة الله في ذهن المؤمن، مزيج بين تَجلِّي الله له في حاله ومقامه من ناحية، وصورة نفسه التي تعكس رغباته وتَطلُّعاته ومَخاوفه وأحلامه، من ناحية أخرى. فهي خليط بين النور والظلمة. لذلك، فإن الحركة والسلوك ضروريَّان لتنزيه الصورة وتصفيتها، لتكون أقرب إلى الله، وأطهر في قلب المؤمن.

هذا هو حال التديُّن، حقلٌ يجتمع فيه الأولياء والقِدِّيسون مع الدجّالين والمتعصِّبين. صورة الله في أذهان هؤلاء، مناقضة لصورته عند أولئك. إلهُ المحبة والرحمة والسلام، ليس إلهَ الكراهية والغرور والهيمنة، ولو انتمى الفريقان شكليًّا إلى الديانة نفسِها، كما انتمى المهاتما غاندي وقاتِلُه أيضًا إلى الديانة الهندوسية، وكما ينتمي الإرهابيون والمؤمنون باللاعنف من المسلمين، إلى الدين نفسه. ولكن، ما يَحملون في أنفسهم من صُوَر عن الإله، يَجعل الفريقَين ينتميان إلى حقيقَتَين مختلفِتَين تمامًا. فالسؤال ليس إلى أيِّ دين ننتمي، بل ماذا فعلنا بديننا، وهل كان وسيلتَنا إلى الخير، أم تعبيرًا عن وساخة أنانيَّاتنا وأهوائنا!

الدِّين هو الحبُّ، والحبُّ هو غايته ومِصفاته وطاقة حركته التحريرية. هذا ما يُترجَم عمليًّا في علاقاتنا بِمن حولنا من بشر ومخلوقات. فمَن يُحِبَّ الله، يُحِبَّ خَلْقه، ويَسْعَ دائمًا لجعل هذا الحبِّ منزَّهًا عن الأدران والأوثان.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق