استكمالًا للتفكّر الذي تضمّنه مقالايَ السابقان في موقع تعدّديّة، حول إشكاليّة الطائفيّة والمواطنة، أطرح هنا رؤيتي للعناصر التي يجب أن تُشكّل خارطة طريق للنجاح في بناء نظام تعدّدي غير طائفي، يسمح بقيام دولة المواطنة. وكما كتبت سابقًا، إنّ مسألة الإدارة السياسيّة للتعدّدية الثقافيّة ترتبط بشكل وثيق بالسياقات المختلفة المعنيّة. لهذا السبب، ما أقدّمه هنا من أفكار، يرتبط بشكل أساسي بالواقع اللبناني، وقد لا يصلح إسقاطه على مجتمعات أخرى.
وأول ما يجب توضيحه في هذا المضمار، هو أنّ إدارة التنوّع الثقافي والديني لا تكون حتمًا عبر نظام سياسيّ تعدّدي بالمعنى الطائفي. فالتعدّديّة الثقافيّة أمر، والتعدّديّة السياسيّة أمر آخر. لا بل إنّني أميل إلى الاعتقاد بأنّ تشكُّل المشهد السياسي على أساس طائفي، يدلّ على قصور في الحياة الديمقراطيّة وفي الحوكمة الرشيدة للمجتمع، وضعف في الوعي الثقافي العام والثقة المتبادلة بين المواطنين. فالسياسة ليست صراعًا بين طوائف، كما كانت تتصارع القبائل للهيمنة على الأرض واكتساب الغنائم. بل هي صراع بين أفراد، أو أحزاب، على السلطة والمسؤوليّة في إدارة الشأن العام، على أساس التنافس بين برامج تدّعي تحقيق المصلحة المشتركة لجميع المواطنين.
ويتبنّى المشترع اللبناني هذا المبدأ العام، إذ إنّه اعتبر -منذ وضع الدستور سنة 1926- أنّ مراعاة تمثيل الطوائف في الوظائف العامة والحكومة هو أمر "مؤقّت"، وليس القاعدة. وطلبت لاحقًا وثيقة الوفاق الوطني في الطائف (عام 1989)، وضع حدٍّ لهذا الواقع "المؤقّت"، فعدّلت المادة 95 من الدستور لتحدّد آليّة تحقيق إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وتوقيتها. لكن المستغرب هو أنّ هذه المادة لم توضع حيّز التنفيذ، حتى بعد 27 سنة على إقرارها. فعاد "المؤقت" ليكون سيّد الموقف، وعاد النظام ليكون رهن إرادة السياسيّين ومصالحهم. فأين تكمن المشكلة؟ ولماذا هذا التردّد والازدواجيّة بين المواقف والممارسة السياسيّة؟ ومن المعرقل لإلغاء الطائفيّة السياسيّة؟ ولماذا؟
لقد تناقش الفيلسوفان الكبيران في علم السياسة، الأميركي جون رولز، والألماني يورغن هابرماس، في مسألة مشاركة الجماعات الدينيّة في الحياة السياسيّة بشكل معمّق. فاعتبر الأول أنّ المفهوم الليبرالي للدولة يضمن الحريّة الدينيّة، بقدر ما تقبل الجماعات الدينيّة بمبدأين. أولًا: حياد الدولة، وعدم انحياز المؤسسات العامة إلى أي دين أو رؤية للعالم؛ وثانيًا: الاستعمال العام والحصري للعقل، لمناقشة قضايا الشأن العام من قبل جميع المواطنين. أما هابرماس فيعترف بأنّ نظام المواطنة منغرس في مجتمع مدني يتغذّى بمنابع ما قبل سياسيّة، مثل التراث الثقافي والديني. لذلك فهو يتميّز عن رولز بقبوله احتمال استعمال الخطاب الديني الخاص، من قبل بعض الجماعات في النقاش العام، شرط أن يعترف هؤلاء بأن النظام القانوني والسياسي يجب أن يأخذ شكلًا مدنيًّا عامًّا. يسمح ذلك –بالنسبة إلى هابرماس- بأن تسهم الجماعات الدينيّة، في تعزيز التضامن الاجتماعي العام، والعيش معًا، عبر مساعدة المؤمنين على تبنّي قيم الحياة العامة، وترسيخها في المجتمع.
لقد جئت على ذكر هذا النقاش الفلسفي، لأبيّن أن المسألة بذاتها ليست عرضيّة، بل هي جزء من النقاش العالمي العام. ثمّ أردت أن أبيّن أيضًا ضرورة التمييز بين المقاربة الطائفيّة، والمقاربة الدينيّة للسياسة. فالأولى تجعل من الطائفة عاملًا مكوّنًا للحياة العامة ولاعبًا في الصراع على السلطة، بشكل يتناقض مع المواطنة والحرية الفرديّة والديمقراطية. أمّا المقاربة الثانية (أي الدينيّة) فيُفترض -وفق هابرماس- أن تقدّم للخطاب السياسي العام ما تعتبره مفيدًا لتحقيق مصلحة الإنسان والمجتمع. ويكون ذلك على أساس الاعتراف بنسبيّة هذا الرأي، وخضوعه للنقاش العقلاني، وللرأي العام الحرّ.
أما بالعودة إلى الحالة اللبنانيّة، فغالبيّة الأحزاب، والممارسة السياسيّة عامة، تتسم بالطائفيّة، بالمعنى الجماعوي. والأحزاب الدينيّة التي تبني مقاربتها للسياسة على أساس إيديولوجي ديني، هي نادرة، منها حزب الله، والجماعة الإسلاميّة، وهي غالبًا ما تجمع بين الديني والطائفي معًا. وتعود صعوبة إلغاء الطائفيّة السياسيّة إلى استفادة الأحزاب الحاكمة منها، ليس عن طريق اقتسامها للسلطة والمغانم وحسب، بل على صعيد الهيمنة الداخليّة على الجماعات الطائفيّة، بما يشبه الإقطاع السياسي، الذي يمنع قيام قوى سياسيّة معارضة وبديلة.
بناءً على ما تقدّم، ودون الدخول في شروط الإمكان ومناقشة المعوقات، يمكن للبنان أن ينتقل نظريًّا إلى نظام تعدّدي غير طائفي، من خلال إنجاز الإصلاحات التالية:
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.