تَخْرج من منزلك في "بدارو"، الحي البيروتي الراقي والهادئ، لتتجه إلى جامعتك، أو لتؤدي عملًا ما، وخلال سيرك تلاحظ صامتًا، بِعينَيِ السوريِّ "الغريب" الذي تكونه، كيف يضم هذا المجتمع اللبناني المصغّر بَوَّابِي الأبنية السوريين والمصريين الذين يلقون السلام إلى عامل محطة الوقود السريلانكي العابر، في حين تتجوَّل عجوز لبنانية متكئة على يد مرافقتها الفيليبِّينيَّة. وفي المساء تزدحم المقاهي والحانات بروَّاد من أبناء البلد وآخرين من سوريين وأجانب، فتشعر بأن الأمور تجري بسلاسة ودون تعقيدات... إذن هناك جانب آخر للصورة المعمَّمة!
صورة رائجة لدى غالبية السوريين -أينما وجدوا-، مضمونها أن المجتمع اللبناني يتصف بخصال عنصرية يُعبَّر عنها بأقوال وأفعال سلبية تَطُول اللاجئين السوريين. هذه الصورة تحمل جزئيات صحيحة بل وخطيرة، لكن علَّتها أنها تعميميّة تتجاهل أمرين لهما تأثير بالغ:
الأمر الأول هو "قصص النجاح"، التي تنتشر في كل مكانٍ تَلاقى فيه السوري اللاجئ مع اللبناني المضيف. فالأمثلة الواقعية الواردة بعجالة في مطلع هذا المقال، حقيقيّة وفعّالة على بساطتها، إذ تؤسس روابط يوميّة عابرة لكل ما يفرق بين هؤلاء الأفراد، وتعطي صورة مصغّرة عن التنوّع الذي يحتضنه المجتمع اللبناني بعفوية، تخالف الصورة الكبيرة المنمّطة التي تقول إنه مجتمع لا يقبل التعددية.
أما الأمر الثاني -الأخطر برأيي- فهو يختص بحالةٍ ما زالت حاضرة في أذهان السوريين، إبّان غزو الولايات المتحدة للعراق سنة 2003، حيث قدِمت أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين إلى سوريا، حتى وصل عددهم المقدَّر إلى أكثر من 3 ملايين لاجئ عراقي؛ وهذا ما انعكس قبل رواج وسائل التواصل الاجتماعي تذمُّرًا واسعًا بين شرائح مختلفة من السوريين، الذين ألقوا اللوم في متاعبهم وصعوبات عيشهم على اللاجئين الذين "أكلوا الأخضر واليابس".
موقع إلكتروني كان من أكثر المواقع السورية انتشارًا حينها، أورد سنة 2007 خبرًا عن "فرض تأشيرة دخول على اللاجئين العراقيين"، تبعَتْه تعليقات القرّاء لتشكل حالة لافتة جدًّا، خاصة عندما تُقرأ في يومنا الحالي؛ فهي في غالبيتها سلبية تلقي اللوم على اللاجئين العراقيين في نقص الكهرباء والماء وازدحام وسائل المواصلات وارتفاع الأسعار... واليوم، بعد عشر سنوات كاملة ينزعج سوريون من تعليقات تصدر عن لبنانيين، هي التعليقات نفسها وعلى نحو حرفي، التي أطلقها سوريون بحق اللاجئين العراقيين.
العبرة أن بعض السوريين اتخذوا قبل عشر سنوات تجاه اللاجئين العراقيين، موقف بعض أفراد المجتمع اللبناني المضيف تجاه اللاجئين السوريين اليوم، في حين يملك الطرفان -اللاجئ والمضيف- اعتراضات محقة تجاه واقع الحال.
غريب كم أن الذاكرة الجماعيّة -السورية في حالتنا اليوم- انتقائية سلبية، تذكر وتسرد ما يناسب رواية مظلوميتها، وتنسى ما لا يتناسب مع حجتها! وهذا لا ينفي بالطبع حق اللاجئ أينما كان في انتقاد الممارسات المجحفة بحقه، والاعتراض عليها بالطرق الصحيحة.
من ناحية أخرى، يتوقف المراقب عند الفرق بين الصورة اللبنانيّة الخاصة الصغيرة التي تبدو إيجابية -ولو بتحفظ- تجاه الآخرين المختلفين دينًا وجنسيةً، والصورة اللبنانية العامة الكبيرة التي تبدو مغرقة في السلبيّة بشأن القضية نفسها.
في محاولة تفسير هذا الفارق، أظن أن الطبيعة البشرية في تجلياتها اليومية الاعتيادية هي عابرة للفوارق التي لا تراها خطرًا داهمًا وفعليًّا؛ فتنشأ في حالات كثيرة صداقات وعلاقات طبيعية كما بين أنداد ومتساوِين ومتشابهين، أي كما يجب للعلاقات أن تنشأ.
لكن حين ينتقل الأمر عينه إلى المستوى الوطني العام، في ظل التجاذب السياسي، ووجود نقاط ضعف متعددة ومستشرية تَطُول بُنَى الدولة، ومع سيطرة وسائل إعلام مموَّلة ومملوكة بغالبيتها من قبل أحزاب أو طوائف، يصبح اللاجئون ورقة تُطرح حين يستلزم الأمر، فيتحولون فزَّاعة وخطرًا يأخذ حجمًا بعيدًا كل البعد عن الحجم الفعلي الذي هو عليه.
الأمر يشبه لقاء الطفل وبركة الماء، إذ تفيد تجارب واقعية أن الطفل غالبًا ما ينجح بفطرته مع دعم بسيط في التعامل مع الماء والعوم فيه. ولكن، إن سبق ذلك تغذية عقله بصورة منمَّطة ومرعبة عن الماء، فيبدأ حاجزٌ يحول بينه وبين العوم بالتشكل، قد يبلغ ارتفاعًا يصعب معه تجاوزه.
تعود إلى المنزل وأنت ما زلت تفكر: هل ستفرض المجتمعات الصغيرة العفويّة نموذجها المتعدد على محيطها الأكبر، أم أن ضغط "التخويف" وتصوير الآخر المختلف كخطر، سيطغى على "قصص النجاح" هذه؟
لا تهمل النظر إلى البقع المضيئة والتعويل عليها، فقد تسهم بدورك في انتصارها!
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.