كتبْتُ في بداية عنفوان الربيع العربي عام 2011، عن الجيل الذي اكتشفناه في ضوء ثورات تونس ومصر. وبعدها كانت الموجات الاحتجاجيَّة تتكرَّر كلَّ أربع سنوات تقريبًا، أيْ مع كلِّ دورة انتخابيَّة في العراق ولبنان. في هذه الأسابيع جدَّدتُ احتفائي بهذا الجيل الجديد، الَّذي أسْقَط جميع الفَرضيَّات الشَّائعة فهو ليس جيلًا منخرطًا دون أملٍ بالعودة أو الشِّفاء في هُويَّته المحلِّيَّة الطَّائفيَّة أو العِرقيَّة، ومِن ثَمّ تَحكُمه قوانين ثقافته المناطقيَّة الَّتي لا يستطيع الفكاك من أَسْرها. ولن يكُون بهذا الحال، سوى وَقُود لكلِّ حرب أهليَّة أو اضطراب سياسيّ.
كتبتُ أيضًا وأنا أُراقب ثورة هذا الجيل الجديد. إنه يتوحَّد لدرجة كبيرة أوَّل مرَّة في تاريخ الشَّرق الأوسط، بفِعل رغبةٍ في التَّغيير. فلم توحِّد هؤلاء الشَّبابَ/الشّابّات كُتبُ "ميشيل عفلق" أو خطابات "جمال عبد الناصر"، ولم يتعلَّموا فنَّ الثَّورة عن طريق قراءة كُتب ماركس ولينين، ولم تَدْفعهم حماسة مُنظِّري الإسلام السِّياسيِّ، بل كان الدّافع لهم/هنّ متابعة أقرانهم في كلِّ مكان. إنَّه جيل يمثِّل "وعْيَ النِّهايات القُصوى" بنهاية دولة المكوّنات، إذ هزَّ الافتراضاتِ التَّقليديَّةَ بِعُمق. إنَّ هذا الجيل ارتقى من حالة اللَّامُبالاة المفترَضة، إلى مرحلة "الخَيال السِّياسيّ".
هذه عشر نقاط أساسية، عن حَراك هذا الجيل الجديد في لبنان والعراق:
١- اُسْتُعِيدَت فكرة الشَّعب الَّتي جرى تفتيتُها إلى "مكوِّنات"، أيْ إلى فكرة مضخّمة أكبر من الفرد وأقلَّ من المجتمع، وما تضَعُه أيضًا من تَحدٍّ تجاه خَلْق هُويَّة وطنيَّة عابرة على صعيد المجتمع، وحقوق المُواطَنة المتساوية على صعيد الفرد.
2- عَمِلَتْ ديناميَّة هذه الاستعادة على ضرب الانقسام السِّياسيِّ، الَّذي تَحوَّل إلى انقسام اجتماعيٍّ، بفِعل نُخَب "البِزْنِس" الطَّائفي من سماسرة الهُويَّة الإثنوطائفيَّة (أحزاب الإسلام السِّياسيّ والأحزاب القوميَّة والدِّينيَّة المختلفة). ومِن ثَمَّ، فإنَّها تُقدِّم تصويتًا على الإقالة الشَّعبيَّة لسائر مُمثِّلي العمليَّة السِّياسيَّة في كلٍّ من لبنان والعراق.
3- أسفَرَت الاحتجاجات عن دليل آخر، على أنَّ الانتخابات مجرَّد آليَّة صمَّاء، وأنَّ صندوق الانتخابات الغبيّ لن يقدِّم خِيارات متعدِّدة للنَّاخب(ة)، إنِ اقتصر الخِيار فيه على اختيار بيْن السَّيِّئ والأسوأ، إذ يظلُّ "المقدَّس في الدِّيمقراطيَّة هو القِيَم وليس الآليَّات" على حدِّ عبارة "أمين معلوف" العميقة.
4- على صعيدٍ عِراقيّ، تُدشِّن الاحتجاجات مشروع إسقاط الدِّكتاتوريَّة غير المُنجَز، لنتذكَّر أنَّه في عام 2003 لم يَسقط سوى تمثال "صدَّام حسين" فقط، في حين بقيَت بُنْية الاستبداد ماثلة، وأعيدَ إنتاجُها بأشكال جديدة. أمّا ديناميَّة الاحتجاج، فتَهدف إلى إسقاط تمثال الاستبداد بصورة نهائيَّة (التِّمثال الدَّاخليّ والخفيّ هذه المرَّة).
5- البصيرة الاحتجاجيَّة عميقة، ويتخلَّلها حذَر واجب -بسبب التَّجربة-، وتتزوَّد بحساسيَّة عالية تجاه رائحة إعادة إنتاج الاستبداد لنفسه، وإمكانيَّات تَحوُّل المُحاصَصة إلى خفيَّة غيْر معلَنة، في شكل "تقيَّة سياسيَّة" أو "مدنيَّة إصلاحيَّة" زائفة.
6- كانت إعادة الثِّقة أو ترميمها بين مكوِّنات المجتمع أُفقيًّا، مِن أبرز النَّتائج المباشرة للاحتجاجات، مع بقاء -بل تَعمُّق- عدم الثِّقة بين النَّاس وممثِّلي السُّلطة. لذا، يتطلَّب إعادة بناء الثِّقة عموديًّا، إصلاحًا مؤسَّسيًّا (الحكومة والبرلمان والقضاء)، ومَرجِعيًّا قِيميًّا (تعديل الدستور).
7- فضْحُ فلسفة النِّظام السِّياسيِّ بعد العام 2003 في العراق، والَّتي قامت على موديل "دولة المكوِّنات" أو الدولة الطائفيّة، بوصفها جزءًا من المشكلة لا بدَّ من وضع حدٍّ لها. لذا، يمكن وصف مشروع الاحتجاجات الثَّوريِّ بكَونه إيذانًا بـ "نهاية دولة المكوِّنات". وتَشمل هذه النُّقطة لبنان، الَّذي يُعدُّ المِثال الأوَّل لدولة المكوِّنات.
8- وضْعُ مسؤوليَّة تاريخيَّة على مثقَّفي/ات الاحتجاج، عن التَّفكير المتواصل في البديل الَّذي يقدِّم الخِيار الثَّالث بين "القوميَّة العربيَّة" و"الإسلام السِّياسيّ". وهُما الخِياران اللَّذان سيطرا على خيال النُّخَب الشَّرق أوسطيَّة خلال القرن الماضي. فبَعْد فشل القوميَّة العربيَّة سيطَرَ خيار الإسلام السِّياسيّ، وبعد فشل الأخير لا بدَّ من التَّفكير في الخيار الثَّالث.
9- تقديم النَّموذج البديل (الخيار الثَّالث)، قد يقُوم على رابطة "مُوَاطَنِيّة"، وبشكل خاصٍّ نموذج "مُواطَنة حاضنة للتَّنوُّع"، بكلِّ ما ينطوي عليه المفهوم من إبداع خلَّاق، أحالَ ساحات التَّحرير في لبنان والعراق، إلى "كومونة مدنيَّة" تقُوم على ولاءٍ مُوَاطَنِيٍّ، وتَخيُّل هُويَّة جماعيَّة مشترَكة.
10- مُمانعة النِّظام وانسداده السِّياسيّ في كلٍّ من لبنان والعراق، انتقلَا من طائفيَّة تمَأْسَسَت في نظام إلى شكلٍ أخطر، أو تَحوَّلَا كَثَورٍ مرتبِك في قاعة من الخزف، إلى وحشٍ ذي أنياب ومخالب. وفي مقابل ذلك، تَبدَّل شعارُ "الإصلاح" إلى "تغيير"، وتَحوَّل "الاحتجاج" إلى "ثورة".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.