منذ ثلاث سنوات قمتُ بإنجاز تجربة تربوية، في مركز تكوين الأساتذة بمدينة وجدة شرق المملكة المغربية، من أجل تقييم قدرة الطلبة الأساتذة على فهم الأديان الأخرى، وهي تجربة تندرج في مشروع الرقي بقيم التعددية والعيش معًا داخل المدرسة المغربية. طلبتُ من الطلبة التعبير عن تمثلاتهم بخصوص المسيحية، واليهودية، وحتى البوذية، والمذهب الشيعي. بالنسبة إليَّ كانت النتائج مؤلمة؛ حيث إن أغلب الإجابات لم تكن فقط عاجزة عن تبيُّن خصوصيات كلٍّ من هذه العقائد، بل قامت بإدراجها في مقولاتٍ جِدَّ إقصائيةٍ مثل: "ضلال مُبِين"، و"عبدة الشيطان"، و"منافقون"...
هذه النمطية، وهذا الكسل العقلي والروحي، جعلاني أطرح السؤال الآتي وأجيب: من أين يستمد طَلبتُنا فهمهم وتمثلاتهم للتعددية الدينية؟ إنهم يستمدونها من المنظومة التربوية ومناهج تدريس التربية الإسلامية، ومن خطب الجمعة والمؤسسات الدينية، التي ما فتِئَت تحذِّر من خطر التعدد كتهديد للوَحدة العقائدية والأمن الروحي، وكمرادف للفتنة.
تجعل ثقافةُ اللعنات اللاهوتية هذه، العقلَ الإسلامي البسيط، عاجزًا عن الدخول ليس فقط إلى القيم الإيجابية التي تحملها الأديان الأخرى، بل وإلى التعددية بصفتها تجسيدًا لمنظومَتَي الديمقراطية والمواطنة. لكن المفاجأة الكبرى، هي أنه عندما طلبتُ منهم أن يفسروا مواقفهم، أكَّد أغلبُهم أن هذه الحقائق يُقِرُّها القرآن بصفتها حقائق نهائية، وأنها "من المعلوم من الدين بالضرورة"، بل وأن القول بشيء إيجابي في هذه العقائد يجعل المرء كافرًا، لكنهم أكدوا أن ذلك لا يمنع من أن نكون متسامحين تجاههم.
لا شك في أننا أمام فهمٍ مشوَّه للتعددية الدينية، لأنه يرفض منح هذا التعدد مضمونًا إيجابيًّا و"شرعية" إلهية؛ ما يفسر خطاب الكراهية المهيمن على العلاقات بين الأديان، وبين المذاهب، بل حتى داخل المذهب نفسه في العالم الإسلامي، الذي لا يزال يقبع في ظلمات "لاهوت التكفير"، وسلطة شيوخ "القبائل الدينية". لذا، فإن الاعتراف بإيجابية التجارب الدينية والمذهبية الأخرى، سيسمح لا شك بجعل فكر التكفير فكرًا وثنيًّا خارج الإسلام.
من أجل تأصيل التعددية الدينية وإعادة بناء العقل الإسلامي، يجب استعادة التفسير والتأويل القرآني. إن فكرة التعددية جزء أساسي من الخطاب القرآني، لكن هل يمكن الحديث بِلاهوت التعددية الدينية في الإسلام، على شاكلة المَجمع الفاتيكاني الثاني الذي أبان عن موقف إيجابي للكنيسة الكاثوليكية، تجاه الديانات غير المسيحية التي تحمل "بذورًا" من الحقيقة الدينية، مؤكِّدًا أنها جزء من الخطة الإلهية لخلاص البشرية؟
ثَمَّة نصٌّ قرآني يمكن أن يشكِّل أساس "التأويل التعددي" في الإسلام، بل إنه يشكل قطيعة مع التصورات والأساطير الدينية، التي ترفض الأساس الإيجابي للتعدد، نصٌّ يفكك الانغلاقات اللاهوتية ومقولات الفرقة الضالة والفرقة الناجية. إنه كذلك نصٌّ يسمح بوضع أسس "الإسلام الحضاري": {لكُلٍّ جعلنَا منكُم شرعَةً ومنهاجًا ولو شاءَ اللهُ لجعَلكُم أمَّةً واحدةً ولَكن ليَبلُوَكُم في ما آتاكُم فاستَبقُوا الخَيراتِ إلى اللهِ مرجعُكُم جميعًا فيُنبِّئكُم بما كُنتُم فيهِ تَختلفُونَ} [المائدة: 48]. كان من الممكن أن يُنتج هذا النص إسلامًا آخَر، غيْرَ نسخة الإسلام التاريخي المسكون بهاجِسَي الفتنة والتأحيد.
يقترح هذا النص نظامًا تفسيريًّا يمدُّنا بثماني قواعد ذهبية، تشكل الطريقَ الثُّمانيَّ لخلاص المجتمعات الإسلامية:
1- التعددية الدينية هي أساس وَحدة الجنس البشري، فالجماعة الإسلامية جزء من الجماعة الإنسانية. ومن الضروري الخروج من وهم "إله المسلمين"، إلى رحابة "إله الناس جميعًا".
2- التعددية الدينية إيجابية لأنها قرار إلهي، وجزء من خطة الله لخلاص البشر.
3- التعددية الدينية جزء من البنية التكوينية للإنسان في بحثه عن الحقيقة.
4- التعددية الدينية تعني أسبقية الأخلاق على العقائد، وأن الخير هو المشترك الإنساني الموصل إلى الله.
5- التعددية الدينية تعني تَجاوُز النرجسية الدينية، والتخلي عن فكرة نسخِ دين لدين آخر.
6- التعددية الدينية تعني أن كل الأديان تشكل طُرقًا للخلاص، فلا أحد يمتلك الحقيقة النهائية في مسائل الاعتقاد؛ ما ينسف التأويليات المبرِّرة للعنف والتعصب.
7- التعددية الدينية تستوجب التبادلية الأخلاقية، والاعترافَ بكرامةِ الآخر وحقِّه في حرية العقيدة مطلقًا.
8- التعددية الدينية تستَتْبِع بناءَ نموذج من التدبير المدني للاختلاف، ورفْضَ الهيمنة السياسية لدين ما (الدولة المدنية).
سنتناول إن شاء الله واحدةً أو أكثر من هذه القواعد، في المُقْبل من المقالات.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.