حضرتُ منذ مدة لقاءً فكريًّا حول النهوض باللغة العربية، أثار خلاله أحدُ المحاضرين سجالًا حادًّا، عندما استَشهد بحديث نبويٍّ مُفادُه أن اللغة العربية هي لغة "أهل الجنة"، تأكيدًا منه لأفضلية اللغة العربية. استَنكر الكثير من الحاضرين، خصوصًا ذوي الأصول الأمازيغية، ربط اللغة العربية بالإسلام، من أجل إضفاء الشرعية على إقصاء اللغات أو الثقافات الأخرى. يمكن وضع هذا الحدث في سياق النقاش الفكري الذي يَعرفه المغرب، وأيضًا دول مغاربية أخرى، حول مسألة تدبير الاختلاف والتنوع داخل الهُويّات اللغوية–الإثنية، وعلاقته بالوَحدة والثوابت الوطنية. أثار النقاش إلى حدًّ بعيد حالة توتُّر بين المدافعين عن أولويّة الهُوية اللغوية الأمازيغية، والهوية اللغوية العربية في المغرب.
إن الإشكالية المطروحة هنا، هي الخطر في أن تتحول الهُويات اللغوية إلى هويات أصولية أو أصوليات لغوية، تلتقي في كثير من النقاط مع الأصوليات الدينية، خصوصًا في اتِّجاه اللغة نحو المقدَّس و"النَّقاء الديني". من هنا، جاءت أهمية تفكيك النَّواة الأصولية للهويات اللغوية، ونزع الطابع الجَوهراني منها. ثم إنّ هذه الإشكالية تُسائل دور الأديان في تدبير الهويات وترشيدها، كي لا تتحوّل إلى هويات قاتلة وحاضنة للعصبيات والانغلاقات الإثنية أو اللغوية.
اِعتمدَت أطروحة قَداسة اللغة العربية على عدة أدلة، من بينها فكرة مثيرة للاهتمام، وهي أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، وهي اللغة التي سيكلِّم بها الله عباده؛ وذلك بِناءً على مجموعة نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، مثل: "يَدخل أهلُ الجنة على طُول آدم ستِّين ذراعًا بذراع المَلِك، على حُسْن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثون سنة، وعلى لسان محمد..". وفي بعض الروايات، أن اللغة العربية كانت لغة النبي آدم حينما كان في الجنة. يجري تقديم العربية على أنها لغة مُصْطفاة من لدن الله تعالى؛ ما يَمنحها هالة المقدَّس. وبغضِّ النظر عن صحة هذه الأحاديث، إلّا أنها تكرِّس فكرة رائجة الانتشار، ليس فقط في المَخِيل الشعبي الواسع، بل حتى في المنظومة التربوية والثقافية. ونتناسى هنا أن القرآن عربي، لأن الله بعث كلَّ نبيٍّ بلسان قومه؛ ما يعني تَهافُت فكرة قدسية اللغة، وأفضليَّتها أو عصمتها.
لقد ظهر هذا الترابط بين الأصولية اللغوية والأصولية الدينية، خلال نقاش اجتماعي وسياسي شهده المغرب والجزائر، حول حقِّ الأمازيغ في أن يعطُوا أولادهم أسماءً أمازيغية، حيث إن الكثير من المواقف، خصوصًا داخل الحركات الإسلامية، رفضت أسماءً أمازيغية، مثل اسم ماسينيسا، لأنه يُحيل على مرحلة الكفر أو الجاهلية. تَداخَل التكفير الديني والتكفير اللغوي أيضًا خلال حادثة جِدَّ مُعبِّرة، حيث إن أحد الأئمة بالمغرب، خصَّص خُطبة الجمعة لبيان أن الطريقة الوحيدة لإلقاء التحية في الإسلام هي قول: "السلام عليكم"، وأن إلقاء التحية بلفظ "أزول" (كلمة التحية بالأمازيغية والتي تعني اقترب من القلب)، مُنكَر حرام.
إن الأصولية اللغوية تَخلُق ثنائية حَدِّيَّة: الأنا (الهوية الأصلية والأساسية)، والآخَر (الهوية الثانوية)، وتَكشف عن نزعة استعلاء، وﺘﻤﺮﻛﺰ لغوي. لذا، بالنسبة إليَّ كمسلم، فإن فكرة أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، أو ربط العروبة جوهريًّا بالإسلام، هي فضيحة لاهوتية بامتياز.
لكن هذه الأصولية تُنتج أصولية لغوية وإثنية مضادَّة -ولو لم يكن لها بُعد ديني-، تدعو إلى العودة للأصول اللغوية الأمازيغية، والتي كانت لغة سكان شمال أفريقيا عدَّة قرون. يجري دعم هذه العقيدة بأفكار أخرى، مثل كَون الإنسان الأمازيغي هو أقدم إنسان على وجه الأرض، وأنه أصل الإنسان العاقل. وفي مواجهة فكرة أن اللغة العربية هي أم اللغات، يُصرُّ بعض الأمازيغ على أن "الأمازيغية الأصلية هي أم لغات الأرض". ولا بد أن نتساءل عن كَون الأمر يتعلق هنا بحقائق علمية، أم بأساطير مؤسِّسة للهويات اللغوية أو الإثنية، أساطير يمكن أن تتحول إلى أصوليات راديكالية عنيفة، تدعو إلى مواجهة "الاستعمار اللغوي والديني العربي" في المغرب.
شخصيًّا، أتمنى أن تجري ترجمة القرآن إلى كلِّ لغات المسلمين القومية، ومنها اللغة الأمازيغية، كي يستطيعوا أداء شعائرهم بلغاتهم؛ لأني أعتقد أن لغة الجنة ليست العربية، ولا الأمازيغية، بل هي لغة تكتنز كلَّ لغات العالم وتتجاوزها، أي أنها لغة الله نفسه! والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.