لقد عبّر الكثيرون من جمهور "المثقفين" في المجتمعات العربية عن استيائهم لما جرى تداوله مؤخّرًا، من تصريحات لقيادات دينيّة، سنيّة من مصر، وشيعيّة من العراق، تحمل المضمون نفسه، الذي يُعبّر عن "تكفير" غير المسلمين بمن فيهم المسيحيون. وعندما تدخّلت السلطات السياسيّة، معتبرة أنّ هذا الكلام يُهدّد العيش المشترك والسلم الأهلي، وطالبت المعنيّين بالرجوع عنه والاعتذار، جاء الرد بأنّ طاعة العقيدة والإيمان أولى من طاعة السلطان، وبأنّ عالم الدين مسؤول عن قول الحق وفقًا لتعاليم دينه، وليس وفق مقتضيات الظروف الاجتماعية والسياسية. وجاء التوضيح من أعلى السلطات الإسلاميّة، التي تُعتبر معتدلة، شارحة بأن كلّ من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر، أي بالمعنى اللغوي رافض لهذا الدين. كما أنّه من يؤمن بعقائد تتناقض مع العقائد الإسلامية، كما يفعل المسيحيون بالنسبة إلى المسيح، فهو كافر بالإيمان الذي يريده الله للخلاص يوم القيامة.
طبعًا هناك من يعتقد غير ذلك، بناء على دراسات دينيّة ترفض هذا الموقف التكفيري. إذ يعتبر بعض المسلمين أنّ الإيمان بالإسلام لا يتناقض مع اعتبار الآخرين مؤمنين أيضًا، وإن اختلفت طرق تعبيرهم عن هذا الإيمان. في الواقع نجد في القرآن الكريم والسنة النبويّة مِثل صحيفة المدينة، تسميةَ اليهود والمسيحيين بالمؤمنين، وليس بالكافرين. لكن هذا الموقف لا يزال يُعبّر عن اجتهادات شخصيّة وهامشيّة، بالنسبة إلى الخطاب الديني الرسمي والثقافة العامة.
السؤال الذي يُطرح هنا: لماذا ينزعج هؤلاء المثقفون والسياسيون من صراحة رجال الدين، عندما يعبّرون عما يعتقدونه تجاه الآخرين؟ أليس ذلك حقًّا من حقوق الإنسان الذي يناضل هؤلاء لتبنّيها في مجتمعاتنا؟ فقد نصّت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حرية الفكر والضمير والدين، والمادة 19 على حرية التعبير. فمن يقبل بهذه الحقوق، فعليه أن يقبل نتائجها، وإن أتت مغايرة لتمنّياته وتفكيره وقيمه. ألا نسمع بمثل هذه المواقف الدينية التكفيرية في مجتمعات غربية، ومن ديانات مختلفة، ولا يسبب ذلك ردود فعل شاجبة، ومطالبات وضغوطًا للرجوع عنها؟ أظن أنّ المشكلة الأساسيّة لا تكمن في مضمون هذه التصريحات، رغم سلبيّتها، بقدر ما هي مرتبطة بالسياق العام في المجتمعات العربية، ما يجعل من هذه المواقف التكفيرية مزعجة وخطيرة، لأسباب أربعة:
أولًا، تُظهر هذه المواقف الدينية التكفيرية حدود المنظومة القيمية الحديثة، القائمة على احترام الاختلاف وعدم احتكار الحقيقة بشكل مطلق من أي طرف. على خلاف ذلك، لا يزال الخطاب الديني يُنتج مواقف إقصائيّة، تُصنّف الناس على أساس ثنائيات قاطعة بين الإيمان والكفر، والحق والباطل. يُشكّل ذلك تحدّيًا للثقافة الحديثة، عندما يضع الدين الحقيقة خارج الإنسان، فإما أن يتبنّاها، أو يكون خارجًا عنها. في حين أن الحقيقة بالمفهوم الحديث، هي اختبار داخلي لدى الإنسان، ومسار ذو أفق مفتوح.
أما السبب الثاني، فهو انزعاج الحكّام والسياسيّين الذين غالبًا ما يبنون وحدة المجتمعات العربية، على نكران واقع التنوّع، والترويج لمبدأ الانصهار القومي. فعندما تطفو إلى العلن مواقف دينية تُعزّز التمايز في المجتمع، وترسم الحدود بين مكوّناته، يرتبك بعض أهل السياسة لأنّهم لم يألفوا التعامل مع هذه المواقف، وإدارة التنوّع بشكل واقعي وسليم.
أما السببان الآخران للانزعاج من هذه الخطابات التكفيرية، فيكتسبان صفة بنيوية في الأنظمة السياسية لعديد من الدول العربية. فإن كان لا ضير أن يعتقد الإنسان ما يشاء، وأن يعبّر عن ذلك، فرديًّا أم جماعيًّا، حتى وإن تضمّن ذلك مواقف من الآخرين، لكن يجب أن يكون هذا الحق متاحًا للجميع، على أساس حرية الفكر والمعتقد والدين. يعني ذلك أن يكون للمسيحي أو اليهودي أو "الملحد"، حق التعبير عما يعتقده، وعن رأيه من الأديان الأخرى، مهما كان هذا الرأي، بما فيه "تكفير" الآخرين. كما يعني أن يتمكّن المسلم الذي لديه رأي آخر في المسألة، يختلف فيه مع رأي المؤسسة الدينية أو سائر المسلمين، من التعبير عن رأيه بكل حرية وأمان. فلو توافرت حرية الفكر والضمير والدين بشكل متساوٍ وآمن للجميع، فلن يكون من إشكال إن كفّر بعضٌ بعضًا آخر، دون أن يُتهم أحدهم بالتجديف، أو آخر بالتعرض لحرمة المقدّسات. أما الحديث عن مسألة ازدراء الأديان، فأتركها لمقال آخر.
أخيرًا، إنّ التكفير يبلغ أقصى خطورته عندما يصدر عن منظومات دينيّة، يُجيز لها اختلالٌ في الواقع القانوني أو السياسي، أن تجعل رأيها مقترنًا بأحكام تطبيقيّة تنفّذ بحقّ الآخرين. فعندما لا تكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان، ولا القضاء مستقلًّا، يُصبح التكفير أداة للتمييز، وحتى الاضطهاد تجاه الفئات المجتمعيّة غير المرضي عليها.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.