عاشوراء في ذاكرتي الطفولية ذكرى حزينة، ذكرى استشهاد الإمام الحُسين، ابنِ عليٍّ وفاطمة الزهراء، حفيد النبي محمد وحبيبه. علامات الحزن كانت حاضرة بتواضع، في الكُحل في عيون النساء والأطفال مثلًا، إذ كانت تقول لي عمتي إن الكُحل هنا علامة على الحزن وليس على الزينة. لا أحد كان يَجرُؤ على الاحتفال أو إقامة الأعراس. هذه قصة عائلة سُنِّيّة في الجزائر وتونس، في بداية السبعينيّات. عائلة تعتزُّ بنسبها الحَسَني، وتعتبر كربلاء ذكرى "عائلية" بمعنى من المعاني.
حُبّ آل البيت ليس حكرًا على الشيعة، بل يشمل المسلمين جميعًا. فحبُّ الآل من حبّ الرسول نفسه، ولِأجْل حبّ الرسول لهم. ولا شكّ أن مجزرة كربلاء مثَّلَت صدمة كبيرة في التاريخ الإسلامي. فلم يَكَدْ يمرُّ خمسون عامًا على وفاة النبي، حتى تعرَّض أحفاده للقتل والسبي والتشريد، وهو أمرٌ لا يَترك المسلمَ محايدًا. في بلاد المغرب، لا يزال التراث الشعبي في بعض المناطق يحمل آثار تلك العاطفة الجيّاشة، ومقاماتُ الأشراف شاهدة على ذلك في زرهون وفاس وغيرهما. ثم إن محبة الشعب المِصري لآل البيت راسخة، ويكفي أن نزور مسجد الإمام الحسين قُبالة الأزهر، أو مقام السيدة زينب، لنشاهد الناس كيف يدخلون ويُفْضون بآلامهم وآمالهم... رأيت يومًا صعيديًّا محمَّلًا بحقائبه وسِلاله، قادمًا مباشرة من محطة القطار. وقَبْل أن يقضي حوائجه الدنيوية، فضّل أن يبدأ بالسلام على الحسين، وكثيرون يفعلون مثله.
كثيرًا ما تكون الحدود الفاصلة بين أهل السنة والشيعة مصطَنعة، خاصة فيما يتعلق بكربلاء واستشهاد آل البيت. وهذا ما يتّضح من خلال أعمال كبار الكتّاب من أهل السُّنّة، مثل: "الفتنة الكبرى - علي وبنوه" لطه حسين، و"أبو الشهداء الحسين بن علي" لعباس محمود العقاد، و"سيِّدات بيت النبوّة" لعائشة عبد الرحمن، و"الخلافة والملك" لأبي الأعلى المودودي، إلخ... كلُّها كُتُب ظهرت قبل الثورة الإيرانية، وقبل بروز التوتر المزعوم بين السنة والشيعة؛ ما يَصلح معيارًا لمعرفة التغيّر في الأجواء، نتيجة التأثير السياسي.
بدأت المشكلة تستفحل في الثمانينيّات، ولا تزال حاضرة بقوة إلى اليوم، عندما أُريدَ رسمُ حدود "دينيّة" بين بعض البلدان وداخلها، لمصالح سياسية ضيِّقة. فلا تكاد تمرُّ عاشوراء من دون اعتداءات دمويّة على الحسينيَّات، في أفغانستان والعراق وباكستان، بل باتت بعض الجماعات المتطرِّفة "تتقرّب" إلى الله بكراهيَة الشيعة. وأيضًا ظهر تطرُّف شيعي يَظنُّ أنّ أهل السُّنّة شركاء في مقتل الحسين، هذا فضْلًا عن الحشد العاطفي للجماهير في الحروب "الأخويّة".
بلغني أنه في قرية إندونيسيّة، يعيش المسلمون والهِندوس جنبًا إلى جنب في سلام ومودَّة، إلى درجة دفعت المسلمين إلى الامتناع عن أكل لحوم البقر والاكتفاء بلحوم الطيور والأغنام، احترامًا لمشاعر جيرانهم الهندوس، وتجنُّبًا لكلِّ ما من شأنه تنغيص العيش المشترَك. وهو أمر محمود وجميل، ما دام طوعيًّا. وقد سبق للطائفة الهندوسية في كراتشي (باكستان)، أن ألغت احتفالات "رام ليلا" لتوافُقها مع شهر محرّم. إنها مشاعر عاديّة تَحدث يوميًّا بين الجيران والزملاء. فمن يقيم فرَحًا في شارع فيه مأتم؟! ذلك من مظاهر الذَّوق السليم، والتضامن التِّلقائي بين الناس. نحن في أمسِّ الحاجة اليوم، إلى تحرير حبّ آل البيت من التلاعب والتوظيف السياسِيَّين، والكفّ عن تجييش مشاعر الكراهية تجاه من يخالفنا، أو يعبّر عن نفس اعتقادنا بطريقة مختلفة. فَلْيكُن العدوان محرَّمًا في محرَّم، وفي سائر شهور السنة، ولْيكن شهرًا للإخاء الإسلامي والحِوار السُّنّي-الشيعي.
يُفترض في مَظْلمة الحسين أن تجعلنا أكثر حساسية إزاء كلّ المظالم، وإزاء أحكام الإعدام بالجملة على المعارضين السياسيِّين، أو على مَن لديهم رأي لا يوافق هوَى الحاكِمِين. مَقتل الأبرياء يهزّ الضمائر الحيَّة، مَهْما كان معتقد أصحابها أو دينهم، وعلى هذه الصحوة الضميريّة بُنيت حقوق الإنسان، حتى لا تتكرّر تلك الفظائع. العطش إلى العدل لا يفرّق بين مَظلمة وأخرى، أو بين ظُلم نعانيه وظُلم يعانيه الآخرون. ومن أسوأ أنواع الظلم، تصنيفُه طائفيًّا ومذهبيًّا ودينيًّا. فالتمييز يَهدر إنسانيّتنا المشترَكة، والتضامن مع الشبيه فقط مع تجاهُل المختلف، خللٌ أخلاقيّ كبير، وتضامُن أعرج يختزن بذور ظُلم قادم.
الحسين ثورةٌ على الظلم، وانتصار للدم على السيف، وإرثٌ للإنسانية ومَخزن قِيَم، يتجاوزان حدود الطوائف والأديان. الحسين دعوة إلى التدبُّر والتضامن، برفض الظلم، والعطش إلى العدل؛ وفاءً لرسالة محمد، ولنور الأرض والسماء.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.