كثيرًا ما تُحذّر المؤسسات الدينية من التلفيق بين الأديان، كأحد الانحرافات التي يمكن أن تُصيب المشتغلين بالحوار. فالمؤسسة تَعتبر نفسها حافظة للهُوِيّة المتميزة، بل المتفوّقة، في حين تظلُّ ظواهر التأثير والتأثُّر وتبادل الأفكار والخبرات بين الأديان والثقافات، حقائق تاريخيةً لا يمكن إنكارها. وهذا يتجلّى حتى في الأشياء العملية كحبّات السُّبْحة، التي لم يعرفها الرسول وأصحابه، الذين سبّحوا بالحَصَى والأصابع. وعندما التقى المسلمون بالشعوب الأخرى انتقلت إليهم السُّبْحة ذات الحبات، ربما عبْرَ المسيحيين أو الهندوس. فيمكن اعتبارها "بِدْعة حسنة" تساعد على ذِكْر الله. هذا بالنسبة إلى الأشياء، فما بال الأفكار والأنظمة اللاهوتية التي تمسّ العقائد؟
في تاريخ الفكر الإسلامي، الاعتزال مثال جيد على القدرة على عبور جدران الانتماءات المذهبية والدينية. فقد تأسّست هذه المدرسة الكلامية قبل التشكّل التامّ للهُوِيَّتَين السنية والشيعية؛ ما أتاح الفرصة لانتماء متكلّمين سنة وشيعة إلى المدرسة نفسها، تَجْمعهم جميعًا الأصول الخمسة للاعتزال، وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فيما عدا ذلك، ثَمَّة مجال واسع للاختلاف، ليس فقط بين السنة والشيعة، بل داخل المذهب نفسه. فإنْ فتحنا كتابًا مُعتزِلِيًّا، نجد في باب الإمامة ما يجعلنا نتعرّف إلى الهُوِيّة المذهبية للمؤلف. فإنْ كان المؤلّف اثنَي عشريًّا أو زيديًّا، فهو يدافع عن مواقفه المذهبية؛ أما إنْ كان المؤلّف سنِّيًّا، فهو يردّ على العقائد الشيعية، أو يَغفل عن الموضوع تمامًا.
الطريف، أن أثر الاعتزال تَجاوز الدائرة الإسلامية، ليتفاعل مع أديان أخرى كاليهودية. فقد تَبنّى القرّاؤون (هم طائفة يهودية لا تُؤْمِن بالتلمود) كثيرًا من الأفكار الاعتزالية. تَشهد على ذلك مكتبة الجنيزة التي اكتُشفت في القاهرة، وما احتوته من كتب قرّائية لصيقة بالاعتزال، بالإضافة إلى مؤلَّفات لِمُعتزلة مسلمين نُسخت بالخط العبري، مع حذف ما يخالف العقيدة اليهودية، كالنبوة المحمدية. أيضًا نجد هذا التأثير حتى لدى الأغلبية الربانية. فهذا داود بن ميمون، من أحفاد موسى بن ميمون الأكثر شهرة، يقتبس في مؤلفاته نصوصًا من أبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي، المتكلّمَيْن الأشعَرِيَّيْن، وغيرهما. وكانت أعماله كلُّها باللغة العربية المكتوبة بالخط العبري، وكذلك الأمر بالنسبة إلى معظم مؤلفات الجَدِّ. والشيء نفسه يمكن أن يُذْكر بالنسبة إلى التراث العربي المسيحي، الذي يمتدُّ تاريخه إلى أكثر من ألف عام، في تفاعله مع التراث العربي الإسلامي.
ذَكَرت سايكو يازاكي (مختصَّة في التصوُّفَين الإسلامي واليهودي)، أنها كباحثة يابانية من خارج الأديان الإبراهيمية، عندما تدرس أعمال أبي طالب المكِّي صاحب كتاب "قُوت القلوب"، وبحيى بن باقودا صاحب "الهداية إلى فرائض القلوب"، لا تشعر بأنهما ينتميان إلى ديانتَين مختلفتَين، نظرًا إلى الوحدة الأسلوبية والموضوعية التي تجمعهما.
لا تزال ظاهرة التأثير المتبادل متواصلة إلى اليوم. وكمثال مُعاصر: "لاهوت التحرير"، الذي وُلد كاثوليكيًّا في أميركا اللاتينية، ليصبح عالميًّا، ويبلغ الأوساط الإسلامية. ونجد مثلًا المفكّر الهندي "أصغر علي إنجنيير" الذي كتب عن "لاهوت تحرير إسلامي"، كما تأثّر بهذا اللاهوت العابر للقارات كلٌّ من "علي شريعتي" من إيران، وفريد إسحاق من جنوب إفريقيا. تظلّ قضايا الفقر والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية قضايا مركزيةً، بالنسبة إلى المتديِّنين الذين يريدون لِدِينهم أن يكون وسيلة إلى تحرير، لا أداة للهيمنة والاستبداد.
الأمر نفسه ينطبق على لاهوت الأديان، الذي بات موضوعًا مشتركًا يكتب فيه مفكرون من مختلف الأديان. فالتعددية وقبول الآخر والتفاعل السلمي بين المختلفين، قضايا حيويّة تُمثّل أولويّة في النقاش اللاهوتي العالمي. فلا يمكن للمفكر الديني أو اللاهوتي اليوم، أن يفكّر ويكتب من دون اعتبار الأديان الأخرى، وما تطرحه من أفكار ورؤى. فالحوار اللاهوتي يسمح لنا بالتفكير في إطار عالمي، ولم يعد ممكنًا مخاطبة أتباع ديننا دون غيرهم، في ظلِّ وسائل التواصل الاجتماعي، وديمقراطية المعرفة، واختلاط الشعوب.
أختم بمثال اللاعنف الجذري، كأسلوب حياة ومقاومة. فلا يمكن في تقديري تَصوّر القسّ المعمداني مارتن لوثر كينغ، في جهاده اللاعنفي ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية، من دون الرجوع للمهاتما غاندي، الذي استقى فكرة "الأَهِمْسَا" من تراثه الديني الهندوسي، فضلًا عن تأثير غاندي في المسلمين، من أمثال: مولانا أبو الكلام آزاد، وعبد الغفار خان، وجودت سعيد، وغيرهم. "إنّ الحكمة ضالّة المؤمن، أنّى وَجَدها يأخذها". وكُلُّنا بشَر نسعى معًا لفهم أنفسنا، ولاكتناه سرّ الحياة والوجود. نتعلّم من بعضنا بعضًا، بتواضع المؤمن المحبّ للخير.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.