أقِفُ أمامَ مجموعة من الطُّلَّاب والطّالبات، وأمُدُّ كِلْتا يدَيّ، فأُضْرب بالعصا عشر مرات على كلّ كفّ. تُردِّد الآنسة جانيت الَّتي كانت تقُوم بضربي: "بدِّكْ تِعتذري، ولَّا ما بدِّكْ تِعتذري؟" ثمّ تَضرب، وتُعيد الكرّة. أتى ذلك على خلفيّة أنَّني سألتُ المعلِّمة يومًا، بناءً على ما قالتهُ لي "بشرى" همْسًا أثناء الفرصة، بأنّ "المسيحيِّين بِرُوحوا على النَّار!". لم أقتنع، وظننتُ أنَّ بشرى تقول ذلك لأنَّها مُسْلمة، ولا تعرفُ عن المسيحيّة شيئًا. ولمَّا قرَّرتُ سؤال المعلِّمة عن ذلك، عوقبْتُ، وطُلِب منّي الاعتذار عن ذلك. فرفضتُ الاعتذار قبْل أن يُشرح لي الأمر، واتُّهمْتُ بأنَّني طائفيّة، وعوقبتُ أمامَ عدد كبير من الطُّلَّاب. كنتُ في الصَّفّ الثَّالث.
في منزلي، لم يكن متداوَلًا أبدًا الحديث بالأديان. فلِكلٍّ دِينُه ومعتقداته، وهي ليست أداة تقييم لِلخير أو الشَّرّ. والسُّؤال في الدِّين مشرَّع، ومَبنيٌّ دائمًا على أنّ الله محبّة. لكن، بعد تلك الحادثة الَّتي وصلَت إلى مديريّة التَّربية، بات أهلي أكثر حذَرًا في "كيفَ" أسأل، و"مَن" أسأل.
الأسبوع الأوّل في المدرسة الجديدة، كان فيه الكثير من الفوضى والأحاديث والتَّعارف. تَحمّستُ لصديقة بِعَينها، وقُمتُ بدعوتها إلى زيارتي في المنزل. تردَّدَتْ، وسألتني عن ديني. أجبْتُها، فسكتت، ثمّ قالت: "أهلي ما بيسمحولي لأنَّكِ مُسْلمة. هلَّأ بتبلْشِي تِعزميني لعندك وبَعْدِين بتخلِّيني أَسْلِم، هيْك بِقُول بابا". كان لديّ رغبة كبيرة في أن أسأل: "لماذا ظنَّتْ أنَّني أريد أن أُغيّر لها دينها؟ وهل يجب أن أبتعد عن الأصدقاء من ديانات مختلفة، كي لا يقوموا بتغيير ديني؟ ولماذا يمكن أن يحاول أيّ شخص تغيير دين أيّ شخص آخر أصلًا؟".
لم تكن علاقة عائلتي بالدِّين واضحة بالنِّسبة إليَّ، ولم يكن هناك دفْعٌ باتِّجاهه، ولم يكن السُّؤال فيه ممنوعًا. ولكنّ الحدّة كانت تَظهر، عندما أعيدُ عبارةً سمعْتُها في المدرسة. على سبيل المثال: تساءَلْتُ مرَّة: "قالت زينة اليوم: المسيحيّين ما بِغَسْلوا أيديهم بعد ما يدخلوا على الحمّام!". وغالبًا ما يكُون الجواب قاسيًا، مثل: "وزينة شو عرَّفْها؟ ما عاد تقعدي معها بالفرصة، وإذا جرَّبِتْ تِحكي بهيْك قصص لا تشاركي".
في عيد الميلاد، ذهبتُ لأزور "لينا" وأُعايدها. لم أكن أحبّ هذه الحالة من التآخي الدِّينيّ الغريب، المتمثِّل بزيارات الأعياد، لأنَّها كانت تُربكني. الكثير من القوانين غيْر مُعلَنة، ولكنَّ حالة الاحترام الفائض المفروضة، كانت تَحْتِم عليّ ذلك. لم تستطع والدة "لينا" استقبالنا في منزلها، فتحوَّلْنا إلى بيت الجدّ. وهناك حصلَت الواقعة! الجدّة تُعدّ ضيافة العيد، وتأتي لنا بها مبتسمةً. تُناولني كأسًا صغيرةً فيها شراب أحمر اللون، تُبارك لنا العيد بِتَمْتَمات، ونشرب جميعًا. شعرتُ بالمرارة، وخشيتُ -إن سألتُ شيئًا- أنْ أكونَ وقِحَة، أو غير محترِمة للأديان.
تَخرج الجدّة من الغرفة، فأسأل "لينا": "ما هذا الشَّراب؟". تجيبني بحماسٍ بأنّه نبيذ، وأنّها السَّنة الأولى الَّتي يَسمح لها أهلُها فيها بشرب النبيذ في الميلاد. فعادةً ما كانت تشرب عصير التُّوت. وهنا كانت الصَّدمة! نبيذ؟! هذا مُحرّم في الإسلام. ثمّ أتذكّر ما قالتهُ صديقتي الأولى في بداية العام، بأنها إن أتت لزيارتي فسأجعلها تصبح مُسْلمة. أليس هذا هو نفسُه ما قامت به الجدّة؟ أرادت أن أحيد عن قواعد الإسلام! هكذا إذًا، يستغلّ بعضُ الكبار الزِّيارات المنزليَّة للأطفال من أديان مختلفة، لتغيير دينهم!
خِفتُ، "لم أعُدْ مُسْلمة!". كنتُ أفكّر: والآن ماذا أنا؟ هل أصبحتُ مسيحيَّة؟ ماذا أفعل؟ أَذْكرُ ما قالته مدرّسة مادَّة الدِّين، بأنّ المُرتدّ عن الإسلام يُقْتل. خفتُ أن يَعْرف أحد بالأمر؛ فأنا لا أريد أن أُقْتل. هل أُقْتل في باحة المدرسة الَّتي ضُربتُ فيها سابقًا، لأنَّني سألتُ عن صحّة ما قالته بشرى؟ أُفكّر في جَدَّتي والعائلة، سيحزنون لو قُتلتُ. عشتُ فترةً من الرُّعب، لم أُخْبر أحدًا قطّ، وفقدْتُ ثقتي بالجميع. فالموضوع لم يكن يتحمّل أن أغامر وأُقْتل.
كانت هذه آخر مرّة، أذْكُر فيها أنَّني سألتُ عن أيّ شيء في الأديان. صار من الأسهل عليّ أن أفعل كما يفعل الآخرون. لا أسأل، لأنّ كثيرين يغضبون من هذه الأسئلة، وغالبًا ما أنتهي وحدي في مشكلة. أبتسم للأعياد الدِّينيّة الَّتي أعْرفها، والَّتي لا أعْرفها. فإنْ سمعتُ شيئًا ليسَ مُقنعًا يقولهُ أحدهم، أُهْملهُ وأحافظ على ابتسامتي البلهاء فقط. أسيرُ في شوارع المدينة، وأرى أحيانًا الجامع مقابل الكنيسة. أضحك في سرّي؛ فكثيرًا ما نُتقن المَظاهر. ولكن، إنْ ذُكر ذلكَ علنًا في أيّ مكانٍ، فلا أتردَّد في التَّصفيق لهذا التآخي العظيم بحرارة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.