قبْل أن تبدأ الثَّورة -هكذا أسمِّيها في الأسابيع الأخيرة-، كُنّا نعتقد أنَّنا في حاجة إلى عمل كبير ودَؤُوب لاستعادة الهُويَّة الوطنيَّة، الَّتي قد نستعيدها أو لا. لم أكُنْ شخصيًّا أتوقَّع أو أجد أنَّ هناك فرصةً، ليَكُون فيها العراق عراقيًّا خالصًا. لكنَّني أخطأتُ، والحمد لله.
على مرِّ العقود الخمسة الماضية (1968 – 2019)، عمِلَ كلُّ مَن حَكم العراق على إنهاء الهُويَّة الوطنيَّة، وتغييبها أمام الهُويَّات الأخرى (الدينيَّة، أو المذهبيَّة، أو القوميَّة، أو الحزبيَّة، أو حتَّى المَناطقيَّة). لكنَّنا اليوم استَعَدْناها. فالهُويَّة الوطنيَّة -بالنِّسبة إلى الإيديولوجيّات الَّتي تَنشأ بلون واحد- مُخيفةٌ، ويُمكن لها أن تُزعزِع وُجودها. ثم إنَّها بمنزلة المُبيد للأحزاب الدِّينيَّة. وقد غَيّب نظامُ الحُكم الَّذي سَيطر عليه حزبُ البعث –مدّة ثلاثة عُقود ونِصف العَقد-، الهُويَّةَ الوطنيَّة، ورسَّخ بدَلًا عنها هُويَّةَ الحزب وفضَّلها عليها، ثمَّ جاء نظام ما بعد الاحتلال (عام 2003) ليُكمل مسيرة حزب البعث، ولكن ليس بترسيخ هُويَّات فرعيَّة، بل بتفكيك ما تبقى من الهُويَّة الوطنيَّة قبل ذلك.
جاءت الأحزاب العراقيَّة بألوان ثابتة (شيعيَّة، أو كورديّة، أو سُنِّيَّة)، وتحوَّلَت إلى ثلاثة تحالُفات (تَحالُف شيعيّ - تحالُف كُورديّ - تحالُف سُنِّيّ)، ثم جاءت الحرب الطَّائفيَّة الَّتي أنتجَتها خطابات تلك الأحزاب. وبذلك، مُزِّقَت الهُويَّة الوطنيَّة مِن قِبَل مَن يُمسك السُّلطة، حتَّى إنَّ التَّغيير الدِّيموغرافيَّ الَّذي أنتجَته الحرب الطَّائفيَّة، لَعِب دورًا سلبيًّا في تعزيز المناطقيَّة وتفكيك السِّلم المُجتمعيّ، وصِرْنا نستغرب إنْ وجَدْنا سُنِّيًّا في محافظة النَّجف، أو شيعيًّا في الأنبار، أو كُورديًّا في منطقة عربيّة بَحْتة. لكن، كلُّ ذلك تَغيَّر منذ الأوَّل من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي. فقد حاولَت الأحزاب العراقيَّة كثيرًا بعد سنة 2003، خَلْق الفجوات المجتمعيَّة، من خلال تصريحات ومَواقف سياسِيِّيها، الَّذين تَصدَّر بعض منهم في مهاجمة المكوِّنات الأخرى والتَّشكيك فيها.
لم نَستعِدِ الهُويَّة الوطنيَّة بتنظيرٍ من مُفكِّرين، أو مُثقَّفين، أو رموز دينيَّة أو سياسيَّة أو عشائريَّة أو قوميَّة أو مذهبيَّة، أو أيٍّ من "الرُّموز" الكثيرة الَّتي في العراق، بل استعدناها على يد جيل جديد همُّهُ الأوَّل هو العراق، جيل علّمَنا كيف نكون مواطِنين/ات حقيقيِّين/ات. هذا الجيل الَّذي استعاد لنا هُويَّتنا الوطنيَّة، أجزم أنَّ 90% منه أو أكثر –حسَب تَوقُّعِي الشَّخصيّ-، لم يُشاركوا في مؤتمرات أو وِرَش أو تدريبات عن "الوَحدة الوطنيَّة - المصالحة الوطنيّة - التَّجمُّعات الوطنيّة"، أو في غيرها من العناوين الَّتي غيَّبَت هُويَّةَ الوطن ولم تَستَعِدْها؛ ذلك لأنهم عرَفُوا العراق بالفِطرة.
نعيش اليوم اللَّحظةَ العراقيَّة الوطنيَّة بكلِّ تَجلِّيَاتها، هذه اللَّحظة الَّتي أبْكَتنا وأفرحَتْنا في آن واحد. فهذانِ "الفرح والبُكاء" لم يأتيا اعتباطًا، وإنَّما العَلم العراقيُّ هو الَّذي رُفع في الاحتجاجات، ورفَعْنا أنفسنا به. وقد كان البحث عن الهُويَّة الوطنيَّة الجامعة، صعبًا جدًّا. فلم نكن نتوقَّع أن نستعيد هُويَّتنا بهذه السُّرعة. نعم، الحرب ضدَّ "داعش" وحَّدَتنا كثيرًا. فتَطوُّع أبناء جنوب العراق للقتال، في المناطق الَّتي كان يُسيطر عليها التَّنظيم الإرهابيّ شماليَّ العراق وغَربِيَّهُ، كان البداية الَّتي لم يُرَدْ لها أن تستمرّ.
العظيم في الثَّورة الَّتي نعيشها اليوم، أنَّها ثورة عراقيَّة، ثورةٌ لأجل العراق وفيه. وما يُميِّزها ويجعلها سببًا في استعادة الهُويَّة الوطنيَّة، أنَّها لم تكن بسبب الخدمات، أو بسبب الاقتصاد، أو بسبب حكومة ما، أو حتَّى بسبب حادثة معيَّنة. على العكس، خرجَت الثَّورة تحت شعار "نريد وَطَنًا". ولا يُمْكن بَعْد اليوم للأحزاب العراقيَّة الَّتي تتنفَّسُ المحاصَصةَ والطَّائفيَّة، أن تَنجح في تمرير خطاباتها الفئويّة الضَّيِّقة، تلك الخطابات الَّتي خسِرْنا بسببها عشرات الآلاف من العراقيِّين/ات. ثمّ إنَّها لن تُفكِّر في ذلك من الأساس، لأنَّ حائطَ صدٍّ شعبيٍّ كبيرًا اسمُه الوعي، هو الَّذي سيُفضِّل أيَّة محاولة.
هذه الاحتجاجات الَّتي تحوَّلَت إلى ثورة، تختلف عمَّا سبقها. فتلك الاحتجاجات كانت تَرفع شعارات خِدميَّة، وسياسيَّة وإصلاحيَّة. ومع أنَّها ليست سلبيَّة، أو ليس فيها أيُّ مَثْلَبة (عَيب)، فإنَّها لم تَرْقَ إلى مستوى الثَّورة اليوم، الَّتي تُطالِب باستعادة الوطن وهُويَّته. وما يؤكِّد ذلك، هو التَّسقيط والتَّشهير، ومحاولات إنهاء الثَّورة بأيَّة طريقة، مِن قِبَل الأحزاب الَّتي ضيَّعَت الوطن وضيَّعَتنا.
يُمْكن للعراقيِّين/ات اليوم أن يَفخروا، لأنَّهم استعادوا هُويَّتهم الوطنيَّة في أقلَّ مِن شهرَين. فالثَّورة الَّتي بدأت في الجنوب وبغداد، الْتَحقَ بها شباب من إقليم كوردستان العراق والمحافَظات الغربيَّة. فاجتمَعوا معًا باحثين/ات عن وطَنٍ يليق بهم وبتنوُّعهم، ولم يكن شعار "نُريد وطَنًا" سوى صرخةٍ في وجه مَن أضاعه.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.