وهو في السَّماء، على ارتفاع مئات الأميال عن سطح الأرض، اختار أن يغادر مقعده في الطَّائرة الَّتي تُقلُّه من باريس إلى تونس، ليتوجَّه إلى مربَّع صغير أمام غرفة القيادة ليصلِّي. لم يلتزم تعليمات السَّلامة، ولم يحترم أوامر طاقم المُضيِّفين له بالعودة إلى مقعده، بل واصَل صلاته هناك رغم المنع. وفَوْر انتهائه سَلَّم يمنةً ويُسرة، واعتدل في وقفته، ثم سدَّد لكمةً إلى وجه المُضيّف.
طالعَتْنا مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ الأسبوع الماضي، بشريط مُصوَّر لهذه الواقعة. انتشر كالنَّار في الهشيم، مخلِّفًا موجة استياء لدى قاعدة واسعة من المؤمنين/ات، وتعليقات أخرى استغلَّت الواقعة للتَّهكُّم من صلاة المسلمين. آخَرون صنَّفوه ضمْن "الهوَس بالدِّين"، ليتحوَّل ذلك الشَّخص إلى "أيقونة" مناسبة تمامًا، لِمَا سيُروَّج تحت ذلك البند في الأيَّام القادمة.
في هذه الواقعة، لا حاجة إلى البحث عن الدَّوافع الَّتي جعلَت ذلك الشَّخص، يصلِّي في موقع ممنوع في الطَّيران الدّولي بحسب قوانين الملاحة الجوِّيَّة؛ إذ لطالما كانت الصَّلاة في السَّفر ميسَّرة شرعًا من حيث وقتها، وتقصيرها، ومكانها. والرُّخَص في الصَّلاة عند السَّفر كثيرة، وتقصيرُها من السُّنن. وفي حال السَّفر بالطَّائرة، يُجيز الشَّرع تأخيرها إلى حين انتهاء الرِّحلة. وإن شاء المُسْلم(ة) الصَّلاة أثناء الرِّحلة، يجوز له أن يصلِّي جالسًا في مقعده. لكنَّ المصلِّي في تلك الواقعة شاء خرق كلِّ السُّنن، وقواعد التَّقصير والتَّيسير الَّتي أتاحها الشَّرع له، ناسفًا آداب الصَّلاة والعُرْف الدِّينيِّ، ليس فقط بعدم احترامه لقواعد السَّلامة، بل بإنهاء صلاته تلك بالعنف الشَّديد على مُضيِّفه.
الصَّلاة الَّتي ينبغي لها أن تَنهَى عن الفحشاء والمنكر، صارت هنا متبوعة بالاعتداء على شخص كان يؤدِّي عمله. فكيف لها أن تُقبل؟ وهل هناك فهم مغلوط من قِبَل بعضهم/هنّ لأحكام الدِّين وأهداف العبادات، أم أنَّ ممارسة بعضهم/هنّ لهذه العبادات منفصلٌ تمامًا عن جوهر الدِّين وآدابه؟ وهل الصَّلاة مجرَّد "واجب" يُؤَدَّى، دون اكتراث لآداب الأخلاق والانضباط في السُّلوك، الَّتي أمرَنا بها الخالق حتى تُقْبل تلك الصَّلاة؟ أسئلة كثيرة نطرحها -مع تكرار هذه الحوادث الشَّاذَّة- عن المنطق وعن الدِّين. لكن يا تُرى، ما الَّذي يجعل مصلِّيًا مِثل ذلك الشَّخص، يَشعر بفَوقيَّته، وبأنَّه مسموح له بالاعتداء على غيره، فيتستَّر بالفرض الدِّينيِّ الَّذي كان يؤدِّيه قبل جريمته؟
الحقيقة أنَّ ذلك الحادث ليس منعزلًا، بل يأتي في سياق لَوثة أصابت بعض العقول؛ مِن جرَّاء انتشار خُطَب دينيَّة شاذَّة، تدَّعي أنَّ "زِنَى المَحارم والقتل أهوَنُ من ترك صلاة الفجر"، وكأنَّها تُؤسِّس لتعميم قاعدة الآثام والجرائم، في سبيل إعلاء الصَّلاة. وفي هذا انتهاك صريح لجوهر الدِّين، ولِنُبْل مقاصد صلاة العبد لربِّه. تلك الصَّلاةُ الَّتي يُفترض فيها أن تُنقّي نفس المؤمن(ة)، وهو/هي بيْن يدَي ربِّه، وتجعله يُحسن لغيره من البشر ويترفَّع عن زلَّاتهم - لا يمْكن أن تصبح مَدخلًا إلى ممارسة العنف، ولا أن تكون مطيَّةً للتَّستُّر عن قتل النَّفس وزنى المحارم.
لا أعْلم في أيِّ زمن بدأ تَشوُّش البديهيَّات الأخلاقيَّة، في أذهان بعض مُدَّعِي التَّديُّن. فاحتكَموا إلى إعلاء فردانيَّتهم على حقوق عامَّة البشر بنوع من الغطرسة والنَّرجسيَّة، متدثِّرين/ات بعباءة الدِّين. "أنا أُصلِّي، إذن أنا أفعل ما أشاء"، وكأنَّه شِعار يرفعه بعضهم/هنّ لتبرير أفعالهم/هنّ الخارجة عن الدِّين والأخلاق والقانون. "أنا أصلِّي؛ إذن أضرب المضيِّف في الطَّائرة". "أنا أصلِّي؛ إذن أغتاب جاري وزميلي في العمل". "أنا أصلِّي؛ إذن أُوقِف سيَّارتي وسط الطريق العامِّ يوم الجمعة، لأنَّ صلاتي أهمُّ من تَنقُّل المواطنين". "أنا أصلِّي؛ إذن أعتدي على غيري في ماله وعِرضه وسيرته"…
إنَّها الكارثة، أَنْ تنقلب أهداف العبادات الَّتي أمرنا بها الله في عقول بعض مُدَّعي "التزام العبادات"، فتصبح مجرَّد تمارين روتينيَّة لا علاقة لها بالأخلاق وبمقاصد الدِّين. فالدِّين في جوهره تحسين للسُّلوك، ودعوة إلى الاستقامة. وبرأيي لا استقامة للفرد بالانفصال عن مجموعته، ونعني بالاستقامة هنا سلوك هذا الفرد إزاء غيره. فقَول الرَّسول محمد (ص): "من مشى في حاجة أخيه، كان خيرًا له من الاعتكاف في المسجد"، لأَبْلَغُ دليل على وَزانة سلوك الفرد إزاء المجموعة مقابل الصَّلاة (بل إزاء الاعتكاف في المسجد وهو أكثر من صلاة).
الشَّواهد كثيرة في هذا المنحى، مِثل سؤال الرَّسول: "يا رسول الله إنَّ فلانة تقوم اللَّيل وتصوم النهار، وتَفْعل وتَصَّدَّقُ وتؤذي جيرانها بلسانها. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا خير فيها، هي من أهل النار".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.