يعد مصطلح "المستبد العادل"، الصيغة المُثلى التي تعبر عن اعتلال "العقل المقهور"، وتغلغُل سموم الاستبداد إلى أعماق ذلك العقل. فالمستبد العادل ليس سوى مصطلح يسوغ الاستبداد، وإلاَّ فإن الاستبداد لا يجتمع بالعدل، ولا ينسجم مع مضمونه. فكل مستبد ظالم، ولا وجود لمستبد عادل إلّا في أوهام المقهورين.
لا يقتصر طغيان الحاكم المستبد على قهر الناس، وإجبارهم على الخضوع له، وإنما يتجاوز ذلك إلى خلخلة مفاهيمهم، كما هو الحال مع مفهومي العدل والحرية، وإشاعة القناعات المغلوطة التي تؤكد للناس أن الحاكم المستبد هو الصيغة المثلى للعدل، والنظام، وحفظ القانون.
ومن جهة ثانية، فإن الحاكم المستبد هو نتاج مجتمعات اختلت موازينها الأخلاقية، وتعطلت منظومتها الاجتماعية، وأخفقت في إصلاح نفسها، وفشلت في إقامة التكافل والعدل والإحسان في شؤون حياتها، وغاب التراحم والتسامح عن مكونات نسيجها ومدارسها الفكرية والدينية.
جزء مهم من مشكلة الحاكم المستبد يكمن في "الثقافة العميقة" للشعوب، التي تراكمت عبر القرون، والتي تعبر عنها مقولة "الناس على دين ملوكهم". وإذا كانت هذه المقولة قد شكلت مساحة كبيرة في ثقافة مجتمعاتنا القديمة، فإنها أصبحت اليوم مقيدة بمدى احترام هؤلاء الحكام للقيم الإنسانية المعاصرة.
كما يمكن تلمُّس تلك "الثقافة العميقة" في بعض المرويات الدينية، التي تتحدث عن معاناة أتباع الأديان الأوائل، الظلمَ أو الاستبداد الذي وقع عليهم، كما في اضطهادِ بني إسرائيل في مصر، والمسيح عليه الصلاة والسلام وأتباعه في فلسطين، واضطهادِ النبي محمد عليه الصلاة السلام وأصحابه في مكة. وقد ساعدت هذه المعاناة على اجتذاب الأتباع الجدد، الذين تقاسموا الشعور بالمظلومية، والحلم بالعدالة الغائبة، كما أسهمت تلك المرويات في صياغة مفاهيم عقَدِيّة، عمقت الإحساس بالعداء والصراع مع الآخر، وأعادت إنتاج أشكال أخرى من الاستبداد!.
أسهم التحالف بين الحاكم المتسلط، ومنظومة الفكر الديني السائد، في إنتاج سلالات من التديّن الغاضب الذي فقد الثقة بالمرجعيات الدينية الرسمية، وانتهى به المطاف إلى استباحة الدماء، ورفع المصاحف على أسنّة السيوف. كما أنتج تَديُّنًا تسويغيًّا يسعى إلى تسويق مقولات فقهية تبرر تفرد الحاكم بالرأي، نحو قولهم عن مشورة الحاكم لقومه بأنها "مُعْلِمة وليست مُلْزِمة"، مع وضوح آية الشورى التي جاءت بصيغة الأمر {وشاوِرْهم في الأمر} [آل عمران: 159].
وإلى جانب هذين النمطين من التدين الغاضب والتدين التسويغي، أنتج ذلك التحالف سلالات من المنافقين المنتفعين الذين يقولون ما لا يفعلون، ولا يفعلون سوى ما يحقق منافعهم، كما في القول المنسوب إلى الشاعر ابن هانئ والذي قاله متملقًا المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار .. فاحكم فأنت الواحد القهار فكأنما أنت النبي محمد .. وكأنما أنصارك الأنصار
وعلى الرغم من رفض الخليفة الفاطمي لهذا التملق، إلا أن هذا الشعر بقي بمثابة مثال واضح للنفاق، وخلط السياسة بالدين .
كثيرا ما يبرر الحاكم المستبد ظلمه بالحرص على الدين والإصلاح، كما في قول فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] ، فالحاكم المستبد يختبئ وراء الدفاع عن الدين والوطن، ويستغل سذاجة أتباعه، كما في قوله تعالى في حق فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]. وقوله: "فاستخف قومه" ينطوي على إشارة بليغة، تؤكد أن الحاكم المستبد لا يحترم شعبه، وأنه يستغل جهلهم وسطحيتهم لتمرير أفعاله الظالمة. كما تؤكد هذه الآية أن طغيان المستبدِّين لا يُسقط مسؤولية الشعوب، ولا يبرر انسياقها وراء ظلمهم.
فالشعوب ليست دائمًا مجرد ضحية بريئة لمستبد ظالم، وإنما كثيرًا ما يكونون شركاء في صناعة الاستبداد، سواء بما يستبطنونه في "ثقافتهم العميقة"، أو في مسلكياتهم التي لا تخلو من الظلم والاستبداد، لمن يخالفهم في الرأي والاعتقاد.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.