بعد مرور اثنين وستين عامًا على إقرار مجلة الأحوال الشخصية في تونس، حدَثٌ تاريخيٌّ آخرُ ضَرَب موعدًا مع تونس يوم 8 حزيران/يونيو 2018، حين قدَّمَت (لجنة الحريات الفردية والمساواة) تقريرَها لرئيس الدولة، متضمِّنًا تَرْسانة مقترحات بإصلاحات قانونية وتشريعية ثورية.
هذه الإصلاحات تتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء تجريم المِثلية الجنسية، ورفع القيود الدينية عن الحقوق المدنية، وإقرار المساواة بين الأب والأم والزوج والزوجة، والمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وإلغاء التمييز بين الأطفال المولودين في إطار الزواج وخارجه، وتحقيق المساواة في الميراث بين هؤلاء الاطفال، بالإضافة إلى إلغاء المهر.
التقرير الذي رأى النور، بعد جَرْد النصوص القانونية التي تتعارض مع الدستور والمعاهدات الدولية، جاء ليكسر الحواجز القانونية، ويُعيد بناءها بما يعزِّز الحريات العامة والفردية. وهو نِتاج طبيعي لدستور 2014، الذي أقرّ صراحة أن الدولة ضامنة للحريات الفردية والعامة. فكيف تُصان الحريات الفردية، إن لم يَجْرِ التنصيص عليها في النصوص التشريعية؟
كان على هذا التقرير أن يعالج أسباب انعدام المساواة، والقطع مع التمييز في المجتمع، بل القطع حتى مع السلطة الأبوية، بجعلِ الأم مسؤولة أيضًا عن شؤون الأسرة. تلك النواة التي بُنيت عليها تركيبة المجتمع، ستُعاد صياغتها حتى لا تنمو أجيال على التسامح مع التمييز بين النساء والرجال، بل إن الحرب على التمييز ستشمل التمييز على أساس اللون والدين والميولات الجنسية وحتى الأصول الاجتماعية، وذلك حين طالب التقرير بالعدل بين الأطفال المولودين داخل إطار الزواج وخارجه، حتى في الميراث.
التمييز الذي يجعل من الرجل "قوَّامًا على المرأة"، لأنه في المنظور الشعبي مسؤول عن جميع نفقات الأسرة، ولأنه يُمنح ضِعفَ ميراث أخته، ما عاد له مكان في تونس الحديثة، حيث المرأة تتحمل عبء الأسرة معنويًّا وماديًّا. ذلك التمييزُ الذي ينطلق من الأسرة، ويتصاعد تراكميًّا ليصبح تمييزًا مجتمعيًّا، آن الأوان للقطع معه. الأمر لا يتعلق فقط بإنهاء التمييز ضد النساء، بل ضد الرجال أيضًا. فالرجل ليس مُجبَرًا على تحمل نفقات الأسرة بمفرده، حين يكون للمرأة دَخْلٌ قارٌّ (مستقِرّ) يكفيها. لقد آن الوقت لإنهاء التعامل مع الرجل على أنه مَصْرِف.
اللافت في التقرير أيضًا، أنه يؤسس لثقافة تقبُّل الاختلاف، واحترام الحياة الشخصية للآخرين، واحترام خياراتهم الفردية حتى الجنسية منها، وجعلِ الدولة ضامنة لاحترامها؛ ومن هنا جاء مُقترَح تجريم انتهاك الحياة الشخصية للآخرين. إنه عملٌ تشريعيٌّ واجتماعي ضخمٌ ينتظر تونس. فالسَّير نحو الدولة المدنية، لا يَحدُث دون تَقصِّي كل المظاهر السالبة للحرية الفردية.
لكن، بعد مرور عشرين يومًا على تقديم التقرير، لم تُعلن الأحزاب السياسية موقفًا واضحًا من هذه الإصلاحات، باستثناء حزب النهضة الإسلامي، الذي اعتبر التقرير منطلَقًا لحوار مجتمعي، ومُعربًا عن "مواقفه الثابتة في الدفاع عن الحريات العامة والخاصة والانتصار لحقوق المرأة". والحقيقة أن هذا الموقف يُحسب لحزب إسلامي، وسط صمت بقية الأحزاب.
صمتُ الأحزاب المريب، فسح المجال أمام علوِّ أصوات الغلوِّ والراديكالية الدينية، التي نادت على لسان عادل العلمي رئيس حزب تونس الزيتونة الإسلامي، برجم أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة، وهو حزب ينادى بإقامة الخلافة الإسلامية.
الانتقادات التي طالت التقرير، قالت إن فيه ما يطعن الأسرة والدين والمجتمع، مستندة إلى المقاربات الشرعية لبناء الأسرة في الشريعة الإسلامية، ومندِّدة بما تسمِّيه تَغييب الاختصاص الشرعي وتجاوُز المرجعيات الدينية. والحقيقة أن العديد من المرجعيات، ساندت اللجنة التي صاغت التقرير (مفتي البلاد). ثم إنّ التقرير استبق الهجوم عليه، فذكر في باب قيمة المساواة بين الرجل والمرأة أنها من صميم الدين، مستشهدًا بآيات في ذلك.
وزير الشؤون الدينية الأسبق نور الدين الخادمي، اتهم تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بأنه "يبيح الشذوذ ويلغي القوامة ويحرم المرأة من حقها الشرعي في النفقة". ودعا الخادمي ديوانَ الإفتاء إلى إصدار فتوى، وإبداء رأيٍ تخصُّصيٍّ واضح في التقرير.
لكن، من سيحسم الأمر، هو رئيس الجمهورية. بيده قرار تَبنِّي التقرير برُمَّته أو بعضٍ منه، ثم تحويله إلى مشاريع قوانين تُعرض على مجلس نواب الشعب. فهل يُعلن الرئيس في عيد المرأة في 13 آب/أغسطس حدَثًا جديدًا؟ قد تَضرب تونس موعدًا مع التاريخ مرة أخرى، وبشكل أجمل... ربَّما!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.